أدب التناصح والخطابة
قد أمرنا الله تعالى بالتناصح لبعضنا البعض، كما أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبديله ما استطعنا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
لقد أمرنا الله تعالى بالتناصح لبعضنا البعض، كما أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبديله ما استطعنا. قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)[i]. وقال الله تعالى: {(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)} [ii]. فلأن تنصح أخاك في الدنيا خير ليه من أن يصير إلى حساب عسير في الآخرة. حتى وإن تضايق منك وأسمعك ما لا يرضيك فإنه سيرجع إلى كلامك ويعيد حساباته فيما بعد فيتوب وينتهي. وتكون بذلك نفعته وأسديت له معروفا لا ينساه لك. وتنال دعاءه بظهر الغيب. ولك الأجر من الله على النصح، والصبر على الأذى وحب الخير للناس. قال صلى الله عليه وسلم: (خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ)[iii]. كما تكون بذلك حققت أمر الله تعالى بخلافتة في الأرض وكونك جزء من الأمة الوسط الشهيدة على الناس. قال تعالى: {(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)} [iv].
لقد وردت نصوص كثيرة تحث على التناصح في القرآن والسنة، منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الدين النصح)[v].
- وقول الله تعالى: {(لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)} [vi].
- وما رُوي عن جرير بن عبد الله أنه قال: «(بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)» [vii].
- وقوله صلى الله عليه وسلم: «(نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه زاد فيه علي بن محمد ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله والنصح لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم)» [viii].
- وقوله صلى الله عليه وسلم: «(إذا نصح العبد سيده، وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين)» [ix]. وقوله في حديث آخر: (عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه)[x].
كل هذا الكم من الأدلة والنصوص يدل على أهمية التناصح في الإسلام. ولو تُرِك الناس دون تناصح لإنتشر الفساد والمعاصي وجهالات الناس وتماديهم في الغي والفجور. ونرى هذا بوضوح في مجتمعات الكفار، بل حتى في مجتمعات المسلمين التي يغيب فيها التناصح. وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابين. فكلنا نذنب، ولكن عندما نسمع موعظة أو نصح نرجع ونتوب ونستغفر بفضل الله تعالى. وهذا ليس عيب، ولكن العيب التمادي في المعاصي وترك التناصح وتجاهل الأوامر والنواهي الربانية. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: "يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم)[xi]. والتناصح خير ما يقدمه المرء لأخيه. فالنفس تغفل وينتبه غيرها، وتنسى ويذكرها غيرها، وتعصي وينصحها غيرها. كما يتشجع المسلمون على الطاعة مع بعضهم البعض. ولذا حث الإسلام على إلتزام الجماعة، وأمر بصلاة الجماعة، ونهى عن كل ما يجلب الفرقة والشتات. قال تعالى: {(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)} [xii]. قال صلى الله عليه وسلم: (ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية)[xiii]. أي أن الشيطان أقدر على الذي يخالف الجماعة وينفرد.
النصح عند الأنبياء عليهم السلام
وكان الأنبياء عليهم السلام ينصحون أممهم. وعلى النصح والموعظة قامت دعوتهم. ومن ذلك:
- نصح نوح عليه السلام لقومه في قوله تعالى: {(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)} [xiv]. وقوله: {(وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)} [xv].
- نصح صالح عليه السلام لقومه في قوله تعالى: { (فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)} [xvi].
- نصح شعيب عليه السلام لقومه في قوله تعالى: ( {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ)} [xvii].
- نصح هود عليه السلام لقومه في قوله تعالى: {(وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)} [xviii].
وعلى الناصح أن يتبع مجموعة من الآداب حتى لا يثير بنصحه النفور والضرر لمن نصحه، ومن ذلك:
- ألا يكون النصح على رؤوس الأشهاد، ولا بتسمية المنصوح أو إحراجه أمام الناس.
- وتكون النية فيه طاعة الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف على حدود الله وكسب الأجر والنجاة في الآخرة وإرادة الخير والنجاة لمن أسدى له النصح. ولا تكون النية فيه أذى الناس أو تجريحهم أو التقليل من قدرهم. كما لا يكون من أجل الكسب في المنافسة أو أي غرض شخصي أو دنيوي. وعلى الداعي أن يستحضر النية الصالحة ويجعلها نصب عينيه. حتى لا يكون تعبه في هذا النصح سدىً وينقلب عليه. ولذا كانت العناية بالنية من أهم ما أمر به الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: «(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)» [xix].
- ولا يكون النصح بكلمات جارحة أو أسلوب قاسي أو موقف مؤذي، بل يكون بأسلوب لين. وذلك بإتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قال الله تعالى في شأنه: {(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)} [xx]. فالرفق بالناس في النصح من أفضل أساليب الدعوة. ومعظم الناس لا تأتي بالشدة في أمور الدين. فلا يمكن أن ندعو ناس وتنصحهم بالصراخ أو الأذى، لأنهم سيتركوننا أو يقابلونا بمثله. وأرى بعض أئمة المساجد يصرخون ويعلون الأصوات في خطب الجمعة وغيرها. ولو أنهم خفضوا أصواتهم وتكلموا برفق لسمع منهم الناس بآذان صاغية دون أن يتأذوا.
- أن يستعمل الحكمة والعقل وأساليب الإقناع الجيدة، مثل ضرب المثل. قال تعالى: {(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)} [xxi]. وهناك علم كامل أُلِّفت في الكتب والمجلدات عن أساليب الدعوة. فينبغي على الناصح أو الداعية أن يطلع على بعضها ليعرف كيف يصل لقلوب الناس وتثمر دعوته وينال الأجر الكبير.
- ألا ينصح الإنسان أخاه بترك فعل هو يفعله، أو بفعل أمر هو لا يفعله. وهذا غير مقبول في الإسلام، بل وفي كل الأعراف بين الناس حتى ولو كانوا على غير ملة الإسلام. قال تعالى: {(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)} [xxii].
- ألا ينصحه بما يصعب عليه القيام به ولا يحمله فوق طاقته. فالإسلام دين اليسر. قال صلى الله عليه وسلم: «(يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّرُوا)» [xxiii].
- على الناصح الصبر على أذى الناس في الدعوة وإحتساب الأجر عند الله. فمعظم الناس لا يحبون النصح ولا يقبله جهالهم. وقد روى عن بعض السلف أنه قال: (من نصح جاهلا عاداه)[xxiv].
- إستخدام أسلوب التعليم والإستدلال بالنصوص.
- كظم الغيظ والسكوت عند الغضب وعن جهالات الناس. قال تعالى: { (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)} [xxv]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا غضِب أحدُكم فلْيسكُتْ)[xxvi].
- إستخدام التيسير دون العسير، قال صلى الله عليه وسلم: « (علِّموا ويسِّروا ولا تعسِّروا وإذا غضِب أحدُكم فلْيسكُتْ)» [xxvii].
- إلتزام ما أجمعت عليه الأمة وتفادي إستخدام الفتاوى المفردة، وترك ما يجلب الفرقة والشقاق. قال تعالى: {(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)} [xxviii].
- تخير الأوقات المناسبة للنصح. فلا يصلح أن تنصح من هو مشغول بشاغل يمنعه الإستماع أو التركيز أو قد يقوده للتشتت أثناء القيادة أو ركوب طائرة أو حضور مخاضرة في جامعة أو نحوه.
الغيرة على محارم الله وحقوق العباد من العدل في المؤمن، ولا يجدها في قلبه إلا إنسان طيب، يحب الخير للناس ولا يرضى لهم الظلم. وهي صفة يحبها الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: «(ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش)» [xxix]. وقال القائل "الساكت عن الحق شيطان أخرس". وهي عبارة منتشرة بين الناس، لم أجدها في حديث، ولكن معناها يتماشى مع موقف الشريعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكذلك مع تحريم كتم العلم، وتحريم شهادة الزور، وتحريم الظلم والكذب وأكل مال الغير وأذى المسلمين. ومن يدافع عن الناس لحفظ حقوقهم يفك بذلك كربهم وينال الأجر من الله.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لقد أمر الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى: {(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)} [xxx]. وهي مهمة جليلة تخدم إصلاح المجتمع وبث الأمن الديني والإجتماعي والتشريعي. وبه يتطهر المجتمع من براثن الجريمة وهتك الأعراض وسرقة الأموال وغيرها من الجرائم التي تعج بها البلاد التي ليس بها أي نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي من أسس الرسالة والتعاليم الإسلامية. وقد وردت نصوص كثيرة تحث على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن والسنة، مثل قوله تعالى: {(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)} [xxxi]. وقوله: { (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)} [xxxii] [xxxiii]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «(أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: تحجزه -أو تمنعه- من الظلم؛ فإن ذلك نصره)» [xxxiv].
آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
- إخلاص النية لله تعالى. ولتكن النية في القيام بهذه المهمة طاعة الله تعالى والإصلاح وإقامة شرائع الله وحدوده. قال صلى الله عليه وسلم: ( «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)» [xxxv].
- أن يقوم بتلك المهمة فرقة من المسلمين، وذلك لقوله تعالى: { (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)} [xxxvi].
- ويجب أن تتصف هذه الفرقة بالعلم والتقوى والإخلاص. فلا يقوم بها عاصي أو مقصر. وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بالمعروف دون عمله والنهي عن المنكر وعمله. وبين أن ذلك من أسباب عذاب القبر في قوله صلى الله عليه وسلم: « (مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟، من هؤلاء؟، قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤن كتاب الله ولا يعملون به)» [xxxvii].
- يفضل تدخل الدولة في هذه المهمة لإنجاحها. فالناس تستمع لموظفى الدولة أكثر من الأفراد. كما أن تدخل الدولة في هذا السياق ينظم الأمر ويجعله أكثر جدية وتوثيق.
- يستن دعوة الناس بالرفق والرحمة. قال تعالى: { (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)} [xxxviii].
- الصبر على القيام بهما، وتحمل مشاقها. قال تعالى: {(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)} [xxxix].
- عدم الأذى والتجريح للناس. ولا ينبغي رفع الصوت والتهديد والصراخ، ولا يكون الأمر بالقوة والجبروت. قال تعالى: {(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)} [xl].
إن التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرا ما يكون عن طريق الخطابة في خطب الجمعة أو العيدين أو غيرها. حيث يقف الخطباء سوى كانوا من أئمة المساجد أو من علماء الأمة أو القراء أو العموم المتفقهون في الدين ويلقون الخطب المنبرية. وهي مصدر جيد للتعليم خاصة في بلاد الغرب. حيث يحرص كثير من المسلمين سواء كانوا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً لحضور خطبة الجمعة. وتكون بمثابة المصدر الرئيسي للعلم لكثير من المسلمين الجدد الذين يحتاجون من يدلهم ويرشدهم الطريق. فتكون أكثر تلك الخطب مترجمة وبلغة سهلة يفهمها المستجدين في الإسلام. كما تكون كإجتماع إسبوعي للمسلمين في بلاد الغربة يجتمعون فيه وتناقش فيه قضايا تهمهم. ولذا ينبغي أن يكون الخطباء متمكنين من الخطابة ليستطيعوا إلقاء الخطب المنبرية الجيدة. وتبدأ الخطبة عادة بالإستعاذة والإستعانة بالله ثم الصلاة والسلام على رسول الله وصحبة وآله. ثم يتلوها خطبتين، واحدة تلو الأخرى. يقول فيها الخطيب مواعظ ونصح وتوجيهات على شكل مختصر وجذاب يدخل لعقول الناس دون الحوجة لكثير من التركيز أو الإنتباه. فهي من السهل الذي قل ودل. ولذا قد أفرد العلماء الخطابة كعلم له أصوله وآدابه التي أُلِّفت فيها الكتب والمصنَّفات. وهي من أقوى وسائل التناصح، حيث يتهيأ المستمعين وينصتوا لما يقوله الخطيب ويتلقونه بصدور رحبة نتيجة لتلك التهيئة المسبقة. ولذا على الخطيب تخير الكلمات التي تصيب سهامها القلوب وتحقق المرجو منها. قال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان سحرا)[xli].
- عليه إخلاص النية لله تعالى. فلا يتولى هذه المهمة منافق أو مرائي. بل توكل للعلماء المخلصين.
- عليه أن يكون سوى العقيدة، فلا يتبع أي من الملل المنحرفة في باب العقيدة كالشيعة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم. ولا يسعه إلا إتباع أهل الفرقة الناجية المنصورة، أهل السنة والجماعة.
- على الخطيب أن يكون متمكن من الخطابة ليستطيع إلقاء الخطب المنبرية.
- عليه الإلمام باللغة العربية وتصريفاتها وإعرابها. كما يستحسن إلمامه بموضوعات البلاغة من إستعار وكناية ومجاز وغيره. كما عليه الإلمام بالأساليب اللغوية المختلفة.
- عليه الإلمام بالعلوم الشرعية، فلا ينبغي أن يكون الخطيب جاهلاً أو مبتدئاً فيها.
- عليه أن يكون سوى النطق، ولا يستحي من الوقوف أمام الناس للإلقاء.
- عليه أن يحسن فن التعامل مع الناس ويخالقهم بخلق حسن. فلا ينبغي أن يكون الخطيب ضيق الخلق سريع الغضب، ينفر منه لناس لسوء خلقه. قال صلى الله عليه وسلم: « (خالق الناس بخلق حسن)» [xlii].
- عليه الصبر على الردود السخيفة والإنتقادات. كما عليه أن يحسن الرد عليها وتفنيد الأقوال الفاسدة.
- عليه أن يحسن فن الكتابة، والأفضل له أن يحضر خطبه بنفسه بدلاً عن نقلها من غيره. فذلك أدعى له أن يتذكر الخطبة أكثر ممن نقلها من غيره. وإن كان لا بأس بالنقل إن لم يستطيع الكتابة، أو خلط هذا وذاك.
- على الخطيب الحرص على نظافته وطهارته، حتى يدخل المسجد ليصلى بالناس وهو نظيفاً طاهراً. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ تعالى طيبٌ يُحِبُّ الطيبَ، نظيفٌ يُحِبُّ النظافةَ، كريمٌ يُحِبُّ الكرَمَ، جوَادٌ يُحِبُّ الجودَ، فنظِّفوا أفنيتَكم، ولا تشبَّهوا باليهودِ)[xliii].
- يجب ألا تكون رائحته كريهة. فلا ينبغي أن يخطب في الناس ورائحته تفوح عرقاً وتؤذي المصلين.
- عليه تجنب أكل البصل والثوم والكراث والبقلة[xliv]. وذلك لرائحتهم الكريهة. قال صلى الله عليه وسلم: «(من أكل من هذه الشجرة يريد الثوم فلا يغشنا في مسجدنا)» [xlv]. وفي رواية: «(من أكل من هذه البقلة، الثوم، وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)» [xlvi].
- عليه إتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في غسل الجمعة. وكذلك سنن الفطرة من قص الأظافر وغيرها.
- على الخطيب أن يحسن ثيابه ومنظره، فلا يلقى الناس بثياب بالية أو ممزقة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب من الثياب الحبرة، وهي الثوب الجميل.
وأختم كلامي بالتأكيد على أهمية التناصح، إبتغاء الأجر من الله. وكذلك بهدف إصلاح الأمة ونشر الخير وطرد الرذيلة والمنكرات من المجتمع. والتوصية بإتباع آداب التناصح والخطابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخلاص النية، وتجويد الخطب، وإتباع أساليب الدعوة المجدية للوصول إلى المبتغى، والإستعانة بالله تعالى في كل ذلك. هذا فإن أصبت فمن الله وبتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- القرآن الكريم.
- الموسوعة الحديثية، الدرر السنية.
- مختار الصحاح.
[i] مسلم 55.
[ii] آل عمران 110.
[iii] أخرجه ابن حبان في ((المجروحين)) (2/1)، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (1234) واللفظ لهما، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5787) مطولاً.
[iv] البقرة 143.
[viii] صححه الألباني في صحيح ابن ماجه (188).
[ix] البخاري 2550، ومسلم 1664.
[x] أخرجه الترمذي (1642) واللفظ له، وأحمد (9492) مطولا.
[xi] مسلم 2577.
[xii] المائدة 2.
[xiii] ذكره شعيب الأرناؤوط في تخريج سنن أبي داود (547)، وقال إسناده حسن.
[xiv] الأعراف 62.
[xv] هود 34.
[xvi] الأعراف 79.
[xvii] الأعراف 93.
[xviii] الأعراف 65-68.
[xix] البخاري 1.
[xx] آل عمران 159.
[xxi] النحل 125.
[xxii] البقرة 44.
[xxiii] أخرجه البخاري (6125)، ومسلم (1734).
[xxiv] اللؤلؤ المرصوع 202.
[xxv] آل عمران 134.
[xxvi] أخرجه أحمد (2136) واللفظ له، والبزار (4872) باختلاف يسير، والطبراني (11/33) (10951) مطولاً.
[xxvii] أخرجه أحمد (2136) واللفظ له، والبزار (4872) باختلاف يسير، والطبراني (11/33) (10951) مطولاً.
[xxviii] آل عمران 103.
[xxix] البخاري 5220.
[xxx] آل عمران 110.
[xxxi] التوبة 71.
[xxxii] الأعراف 157.
[xxxiii] موضوعات القرآن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[xxxiv] البخاري 6952.
[xxxv] مسلم 49.
[xxxvi] آل عمران 104.
[xxxvii] الجامع الصحيح للسنن والمسانيد، من أسباب عذاب القبر، الأمر بالمعروف وعدم إتيانه والنهي عن المنكر وإتيانه، 2/119.
[xxxviii] الأعراف 199.
[xxxix] لقمان 17.
[xl] آل عمران 159.
[xli] أخرجه البخاري (5767)، وأبو داود (5007)، والترمذي (2028)، وأحمد (5687) واللفظ له.
[xlii] أخرجه الترمذي (1987)، وأحمد (21392).
[xliii] صححه السيوطي في الجامع الصغير (1742).
[xliv] البَقْلُ معروف، الواحدة بَقْلَةٌ. والبَقْلَةُ أيضاً: الرِجْلَةُ، وهي البَقْلَةُ الحمقاء. والمَبْقَلَةُ: موضع البَقْلِ. ويقال: كلُّ نبات اخضرّت له الأرضُ فهو بَقْلٌ. مختار الصحاح.
[xlv] أخرجه البخاري (854)، ومسلم (564).
[xlvi] أخرجه البخاري (854) مختصرا، ومسلم (564).
منال محمد أبو العزائم
أستاذ مساعد بقسم القرآن الكريم وعلومه بالجامعة الاسلامية بمينيسوتا.
- التصنيف: