وقفة حساب
إن لوقفة الحساب هذه معالم وضوابط، نريد أن نجمل بعضها لتكون هادية لمن أراد أن يستهدي، ومرشدة لمن أراد أن يسترشد
الحمد لله قسم الزمان قرونًا، وعقودًا، وسنوات، وأشهرا، وأسابيع، وأيامًا، وليالي، وساعات، وقسم الساعات دقائق وثوان، وجعل للإنسان عمر خبأه، وجعل للإنسان أعمالاً قدرها ويسرها.
وكل عبد ينظر نتيجة عمله من زراعة أو تجارة أو صناعة، أو غير ذلك، ويحصي ربحه أو خسارته ليستفد من يومه إلى غده، ومن عام مضى إلى عام يستقبله، وإن العمر حلقات تنتهي بالموت، وليس الموت عدمًا، إنما الموت انتقال من حياة العمل إلى حياة الحساب، ففي القبر سؤال وفيه نعيم، أو عذاب، ثم إن بعد الموت بعثًا وحشرًا، يكون فيه الوزن والحساب والصراط والميزان، ثم جنة أو نار.
فمن حَسُن وعيه استدرك على نفسه الخطأ، فقوَّمه، وعرف الصواب فالتزمه؛ لذا وجب على العبد أن يقف مع نفسه وقفة حساب؛ ليتوب من كل ذنب وقع فيه، حتى يقبل على ربه وقد عمل ما يُرضيه، فينجيه من النار، ويدخله الجنة.
معالم وقفة الحساب:
وإن لوقفة الحساب هذه معالم وضوابط، نريد أن نجمل بعضها لتكون هادية لمن أراد أن يستهدي، ومرشدة لمن أراد أن يسترشد، فنقول مستعينين بالله تعالى:
أولاً: إن الحساب الذي يحاسب به العبد، والميزان الذي يوزن به العمل، والصحيفة التي يأخذها يوم القيامة ويُقال له: ({اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا}، إنما قد كتب فيها الأعمال، كما قال تعالى: {ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاصها} [الكهف : 49] ، وكما قال سبحانه: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًا يره} [الزلزلة : 7، 8].
وهذه الأعمال توضع في الميزان ويتأثر بها العبد؛ لذا قال سبحانه وتعالى: {وأما من خفت موازينه، فأمه هاوية، وما أدراك ماهية، نار حامية} [القارعة:7 - 11].
فقد يخف الميزان بسبب ذرة من العمل تنقص لتركه مشروعًا، أو بسبب سيئة تقع لارتكابه ممنوعًا، أو يثقل بسبب ذرة من العمل المشروع بفعله، هذا يعني أن العبد لا يستهين بصالح العمل، فيترك منه شيء، ولا يسيء العمل فيقترف منه شيئ، فرب العزة سبحانه يقول: {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد} [ق : 18]، ويقول سبحانه: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} [الإسراء:23]، فحذر من أصغر الكلمات، وفي الحديث : «إن العبد ليتكلم بالكلمة من مرضاة الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فتبلغ به إلى الجنة، وإن العبد ليتلكم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فتبلغ به إلى النار».
وفي الحديث عن جابر عند مسلم مرفوعًا: «إن الشيطان أيس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي بما تحقرون».
وأمثلة تلك الأعمال الصالحة كثيرة، وكذلك الأعمال المهلكة، فامرأة تدخل النار في هرة؛ لأنها حبستها حتى ماتت، وأخرى بغي تدخل الجنة؛ لأنها سقت كلبًااشتد به العطش.
ثانيًا: الله مُطَّلع على العباد جميعًا، وقد جعل معهم الملائكة يكتبون، فلا يتركونهم في حال من أحوالهم، إنما هم معهم، لذلك فإن العبد يخلو بنفسه ويسافر من بلده ومع ذلك الملائكة معه، فقيام الليل يكتبونه، وفلتان اللسان يقيدونها، وغدرات السر لا يفوتونها، فواضعوا القوانين من البشر، وكذلك الذين يراقبونك أو يحاسبونك يمكنك أن تراهم وتعرف أهواءهم وترصد وجودهم وغيابهم؛ لذا فإنك تنتهز منهم غرة، وتبحث في نظامهم عن ثغرة، وتنتظر منهم غفلة أو تحقق لهم ما يريدون من شهوة أو تغريهم بعطاء كل ذلك لتفلت من حسابهم.
أما ملائكة رب العالمين فليسوا ذكورًا تغريهم بالنساء، ولا نساء نزوجهن من رجال عندنا، لا يأكلون أو يشربون فنهدي إليهم طعامًا نستميلهم به، وهم معنا لا يتركوننا ساعة من ليل أو نهار.
ثالثًا: إن القلم يوضع على العبد إذا بلغ الحُلُم فلا يرفع عنه إلا في نوم أو جنون أو إغلاق (شدة غضب، ويستمر ذلك حتى يموت وتكتب أعمال العبد في صفحة لا تستبدل، فكم من ذنب بقي في الصفحة أثره، وكم من توبة لم تقبل لوقوع الخلل في نفس التائب بإصرار أو عدم استجماع صدق وعزم.
رابعًا: ينبغي ألا ينسى المكلف أنه عبد مخلوق؛ خلقه الله لعبادته، وأنه ملك لسيده ومولاه، والملوك إن عمل لسيده ما أراده منه فقد قام بالواجب الذي عليه ولا يستحق عليه أجرًا، فإن عمل عند غير سيده فإن كان بإذن، فالذي يقبضه من الأجر هو ملك لسيده، وإن كان بغير إذنه فهو معصية ومخالفة يستحق عليها العقوبة، على هذا فإن العبد غير مستحق للأجر إذا عمل بما أمره به ربه، ومستحق للوزر إذا خالف أو قعد عن تنفيذ أمره.
هذا في العبد المملوك لسيده يطعمه ويسقيه ولا أجر له على عمل يؤديه، ولكن العبد مخلوق خلقه ربه سبحانه ورزقه وهو يرعاه.
فإذا علم العبد أن الله يأجره على الصالحات من الأعمال أيقن أن ذلك فضل من الله سبحانه وليس استحقاقًا منه لذلك الثواب، فيبقى نظره متعلقًا بفضل الله الذي حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.
فرؤية العمل باب المعصية وسبب جرأة العبد على ربه وترك طاعته، وعلاج ذلك أن يرى العبد فضل الله تعالى عليه من العلم، فالطائع مدين إلى ربه بالهداية والتوفيق، فليزمه لذلك أن يشكر ربه وأن يملأ القلب عرفانًا بفضله ونعمه أن جعله من المؤمنين ولم يجعله من الكافرين.
خامسًا: لربي عليّ منن عظيمة وأفضال جسيمة؛ منها تلك الأعضاء التي وهبني إياها بغير سابق عطاء مني واستحقاق لي، وهو سبحانه خلقها لطاعته وعبادته: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات : 56-58]، وإن الله قد جعل عليها( الأعضاء) صدقات ففي الحديث: «يصبح على كل سلامي من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس».
ففي كل يوم يمر على العبد فعلى كل عضو منه صدقة، فكم من نعمة لله على عبده، وكم من يوم مر من عمره، فكم وفَّى من الصدقات، وكم بقي عليه من الديون، وكل ذلك داخل الميزان.
هذه لمحة يسيرة من وقفة الحساب التي ينبغي للعبد أن يقوم بها مع نفسه. والله من وراء القصد.
محمد صفوت نور الدين
رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية، توفي رحمه الله عام 1423 هـ بمكة المكرمة .
- التصنيف: