من خير الناس في الفتن؟

منذ 2024-03-04

فحذّر صلى الله عليه وسلم من كلّ قرب من الفتنة، وأخبر أن الجالس خير من القائم وأن القائم خير من الماشي.. وما ذلك إلا لسلامة الدين، كما أن تجنب الفتنة علامة على رجاحة العقل وسعته.

روى أحمد في مسنده والترمذي والنسائي والدارمي في سننهم وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والطبراني في الكبير، جميعًا بألفاظ متقاربة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «خيرُ الناس في الفتن رجلٌ آخذٌ بعِنان فرسِه خلف أعداء الله يخيفهم ويخيفونه، أو رجل معتزلٌ في بادية يؤدي حق الله الذي عليه»، قال الحاكم: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي والألباني كما في الصحيحة له.

 

وروي الحديث كذلك بلفظ:  «ألا أخبركم بخير الناس منزلةً» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:  «رجلٌ آخذٌ بعِنان فرسِه في سبيل الله يُقتل أو يموت، ألا أخبركم بالذي يليه؟ رجل معتزل في شِعْبٍ يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويشهد أن لا إله إلا الله»، من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم عند أحمد وغيره.

 

والحديث فيه الحثّ على أصل سلفي كبير، وهو "إيثار السلامة" على الخوض فيما لم يتبيّن فيه الخير من الشرّ، والحقّ من الباطل، والسُّنة من البدعة.. وقد جاءت جملة من الأحاديث والآثار في هذا المعنى نفسه وذلك الأصل العظيم النفع للعبد في دينه ودنياه، سيأتي بعضها في حديثي هذا.

 

وإنما جاء التوجيه النبوي في هذا الحديث بتفريجة للطاقات البشرية من أهل الإيمان في أزمنة الفتن، فالنبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا في تلك الأزمنة إلى العمل الخالص من شوائب الفتن المشتبهة.. التي يجتمع فيها للجماعة والطائفة حق يخالطه باطل، أو خير فيه دخن.

 

فخيرنا في زمن الفتن رجل آخذ بعنان فرسه، وربما اليوم كذلك برأس قلمه.. خلف أعداء الله يخيفهم ويخيفونه، يردّهم عن ديار المسلمين ويصدّهم عن النيل من مقدساتهم، حتى يقتلهم أو يقتلوه.. أو يفضح مخططاتهم بقلمه ويجلي للمسلمين حقائقهم، يردّ شبهاتهم وأباطيلهم، ويغزوهم في عقائدهم وأفكارهم.

 

فهذا الرجل لم يشأ أن يقاتل بسيفه ولسانه غيرَ كافر أو خارج عن الإيمان، وربما في زماننا هذا غير صاحب قضية إسلامية مثله، فهو لا يصطدم بأخ له يعمل في الحقل الدعوي الإسلامي، ولا يسعر الفتنة القائمة في الساحات الدعوية.

 

أو خيرنا في زمن الفتنة والتباس الأمر كذلك رجل آخر يعتزل كلّ اختلاط يخشى منه على دينه الفتنة والهلكة، فهو يعبد الله بينه وبين نفسه، وقد عجز عن مقارعة غير المسلم في ميدان الصراع الواسع الكبير، فأخذ يتقرب إلى ربه بما لا يدخله الاشتباه والالتباس.

 

فهذان الرجلان خير الناس في الفتن بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدّما السلامة خشيةَ الندم فيما بعدُ والملامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:  «إيّاك وكلَّ أمر يُعتذر منه»  (رواه الضياء عن أنس وحسنه ابن حجر والألباني كما في صحيح الجامع).

 

وإنما يبعث المرءَ على إيثار السلامة متانةُ دينه وشدّة ورعه، فإن الله تعالى لم يتعبدنا بالخوض في المشتبهات التي هي عادةً مقدِّماتُ الفتن والمحن، بل حذرنا منها كأشدّ ما يكون التحذير، كما جاء على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم:  «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به»  (أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة).

 

فحذّر صلى الله عليه وسلم من كلّ قرب من الفتنة، وأخبر أن الجالس خير من القائم وأن القائم خير من الماشي.. وما ذلك إلا لسلامة الدين، كما أن تجنب الفتنة علامة على رجاحة العقل وسعته.

 

وقد كان جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله علي وسلم اعتزلوا الفتن الواقعة بعد موته عليه السلام، لعدم تبيُّنهم الحقّ فيها من الباطل، وهذا هو الواجب، وهذا هو المأمول اليوم في واقعنا وفتن زماننا، لا اعتزال كلّ اختلاف وكلّ اشتباه، ولكن اعتزال وتجنّب ما لم يتبيّنه العاقل من تلك الفتن المشتبهة.

 

ففرقٌ بين من يخوض بلا دراية ولا بيّنة، وبين من يفرض عليه مقامُه العلمي والدعوي التدخل وإبداء الموقف والرأي الشرعيينِ.

 

فرقٌ بين من حمّلهم الله مسؤولية الأمة وبين غيرهم من المغمورين أمثالنا، ممن يتطوعون في الفتن بلا دين وبلا عقل وربما بلا إيمان!

 

ومن هذا الباب خوض من خاض من الصحابة رضي الله عنهم في الفتن بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من باب سبقهم في العلم والإيمان، ثم من باب مسؤوليتهم تجاه الأمة، ثم من قطع كلّ فريق منهم بصوابه، وهذا الظن بأهل الإيمان والعلم والعقل من الصحابة رضي الله عنهم، فحملتهم المسؤولية وحملهم العلم والدين والعقل على موقفهم، فكان دخولهم فيما دخلوا فيه دينًا وعلمًا وإيمانًا.

 

وأما الذين اعتزلوا منهم الفتنة فكان من باب الديانة والورع كذلك، إذ اشتبه عليهم الأمر فكفوا أيديهم وآثروا السلامة، ولهذا يقول ابن عمر وقد اعتزل مع من اعتزل: "كففت يدي فلم أقدم، والمقاتل على الحقّ خير مني" (أخرجه الحاكم في المستدرك)، ثم لمّـا تبيَّن لابن عمر وجه الحقّ قال: "ما آسى على شيء إلا أني لم أقاتل مع علي رضي الله عنه الفئة الباغية" (أخرجه الحاكم في المستدرك).

 

ونحن اليوم تظلنا فتن إثر فتن، وتختلف مواقفنا طبقًا لتفاوت إيماننا وعلمنا وعقولنا، لكننا نظلّ جميعًا في نهاية الأمر مطالَبين بتحري السلامة لديننا ودعوتنا، وقد جعل لنا مخارج كثيرة من الأعمال الصالحة والمشروعات الدعوية.

 

وليعلم أن الفتن في واقعنا المعاصر لها صور وأشكال كثيرة، أعظمها الخلافات الواقعة بين أصحاب المناهج الدعوية المختلفة، وبين الدعاة بصفة أخصّ، والواجب التحري والتورع قبل الولوج في تلك الفتن التي قد يضر إشعالها بديننا ودعوتنا.

 

 

وإذا لم يتبيّن لأحدنا الحقّ لاشتباه الأمر عليه فليسعَ في عمل لا شبهة ولا خلاف عليه.. وليأخذ بعنان فرسه في سبيل الله خلف أعداء الله يخيفهم ويخيفونه.. أو يأخذ قلمه ولسانه في فضح أعداء الله من العلمانيين والمنافقين وردّ شبهاتهم ودحض مخططاتهم.. أو يعتزل كلّ هذا ويكفّ شرّه عن الدعوة والدعاة وينشغل بطاعة الله فهو خير له ولهم.

 

وبعد: فليس في استطاعتي.. ولا في استطاعة غيري، أن أحمل غيري على منهج دون منهج، فإنني في نظرك صاحب رأي أو رؤية قابلة للصواب والخطأ، لكنني أدعو نفسي وأدعو كل مباشر لتلك الفتن.. أدعو الجميع لمزيد من الورع والدين قبل ولوج كلّ فتنة قائمة بين العاملين لدين الله في كل مكان أو زمان، فإن خير ما نتواصى به مراقبة أنفسنا ومحاسبتها.

 

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهم وسلم على نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

__________________________________________________

الكاتب: مركز جنات للدراسات