شرقًا أم غربًا لا فرق؟

منذ 2024-03-05

فخلال ثلاث سنوات فقط كان قد اقترف جيش «كوكب اليابان»! ما لم يخطر على قلب هذا الشعب المسلم المُسالِم، فقُتِلَ منهم خلال تلك الفترة الوجيزة حوالي 4 ملايين إندونيسي

 

 

مجلة البيان : أحمد عمرو

 

«كوكب اليابان»؛ هكذا أطلقوا على تلك الدولة التي تَحْظى بتقدُّم تكنولوجي وتقني، بجانب قدر كبير من الانضباط والالتزام في الحياة والعمل؛ يشي هذا المصطلح أننا أمام بلد تجاوز تقدُّمه وتطوُّره، بحيث لم يعد يمكننا وَصْفه بأنه ينتمي لكوكبنا الأرضي بكل ما فيه من الفوضى والتشتت.

في كأس العالم الأخيرة خرجت الجماهير التي حضرت في الاستاد لمشاهدة المباراة الافتتاحية بعد انتهائها؛ إلا اليابانيون لم يخرجوا إلا بعد تنظيف كامل للمدرجات، وكذلك كان لاعبو مُنتخبها قمة في النظافة والانضباط، شعب يُقدّس العمل، ويتفانى في البذل، ويحترم الآخرين، مُسالِم في طبعه ودود في معاملته.

قديمًا راجت مقولة مشابهة تمتدح الغرب يقول صاحبها: «رأيت إسلامًا ولم أرَ مسلمين»، وسواء كانت العبارة التي أُريد منها تمجيد الغرب، والأخرى التي تَرفع من شأن الشرق، فالهدف هو رسم صور ذهنية مثالية عن حضارات متصادمة بشكل كلي مع قِيَم وثوابت حضاراتنا الإسلامية؛ اللهم إلا من  قشرة رقيقة من تقدُّم تقني وزخارف ملوّنة يحسبها الظمآن ماءً حتى إذا جاءها لم يجدها شيئًا.

لقد وقعت إندونيسيا تحت سيطرة «كوكب اليابان»! في الفترة بين ١٩٤٢- 1945م، وكانت مِن قبل تابعة للمستعمرات الهولندية، استُقْبِلَ الاحتلال الياباني وقتها بالترحاب مِن قِبَل الإندونيسيين، ورُفعت الشعارات المؤيدة لليابان في عموم البلاد مثل (اليابان شقيقتنا الكبرى)، لقد قام الشعب الإندونيسي بالتخلُّص من كل الجيوب الباقية في البلاد من الهولنديين بديلاً عن الجيش اليابان ومخدوعًا به، فإذا بالاحتلال الياباني أشدة وطأةً وأكثر ظلمًا!!

فخلال ثلاث سنوات فقط كان قد اقترف جيش «كوكب اليابان»! ما لم يخطر على قلب هذا الشعب المسلم المُسالِم، فقُتِلَ منهم خلال تلك الفترة الوجيزة حوالي 4 ملايين إندونيسي، فلم يرحموا امرأة ولا طفلاً ولا شيخًا مُسنًّا، فكانت تُعْقَد المسابقات للجنود اليابانيين للترفيه بقتل أكبر عدد ممكن من العُزَّل، بالإضافة إلى قطع الأعضاء التناسلية، واصطياد الأطفال بالحراب، واستخدام البشر لتجربة الأسلحة الكيميائية. فضلاً عن اغتصاب النساء، وما زالت قضايا نساء المتعة ضد الجيش الياباني مثارة في الأروقة السياسية الدولية إلى الآن؛ حيث ترفض اليابان الاعتذار حتى عن فظائعها.

كان على كل إندونيسي أن يركع ويحني رأسه إذا مرَّ أمامه أقل جندي ياباني، وكان من حق الجنود اليابانيين أن يقتادوا أيّ إندونيسي ذكرًا كان أو أنثى حيث يشاء من دون أيّ اعتراض. لقد عامل اليابانيون الشعب الإندونيسي بازدراء كبير، ووحشية منقطعة النظير. إلى الحد الذي وصف به بعض الإندونيسيين القنبلة النووية التي أُلقيت على اليابان بقنبلة الرحمة؛ إذ خلَّصتهم من تلك البشاعة المفرطة والظلم الشديد.

ومن الشرق تأتي الصين أكثر دول الشرق ترشُّحًا لإحداث خَرْق في منظومة السيطرة الغربية التي تهيمن على كل شيء سياسةً واقتصادًا وفكرًا وقيمًا، لكن هل تحمل الصين ثقافة ومنظومات أكثر عادلة وحكمة؟

توفر الصين الأموال الضخمة لإقراض الدول الفقيرة، من دون شروط ثقافية وقيمية كما يفعل الغرب الذي يُدْخِل ملفات حقوق المرأة والمثليين وعدد من المواثيق الدولية شرطًا للموافقة على الإقراض. لكن تلك القروض لا تُعْطَى من دون مقابل، فتحصد الصين مقابلها صلاحيات ونفوذًا واسعًا على أصول الدولة إذا تخلفت عن السداد، فقد أغدقت الصين على سريلانكا هذه الدولة الصغيرة حوالي ثمانية مليارات دولار بفائدة قدرها ٦.٣%، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالبنك الدولي الذي تتراوح فوائده بين 0.25% و3%. نتيجة لذلك حصلت الصين على ٨٥% من حصة مرفأ «هامبانتونتا» الاستراتيجي بعقد مدته ٩٩ سنة، بالإضافة لحوالي ١٥ ألف فدان قريبة من الميناء كمنطقة صناعية.

كينيا هي الأخرى اضطرت لرهن أكبر وأهم مرفأ بها «ميناء مومباسا» للحكومة الصينية؛ وذلك بسبب قروضها المتراكمة.

تُقدّر ديون الصين لجزر المالديف بمبلغ 1.3 مليار دولار (أي أكثر من ربع إجمالي الناتج المحلي السنوي)، وقد استأجرت بكين إحدى جزرها لمدة خمسين عامًا، وبعد استلام إبراهيم صلح الرئاسة أخذ على عاتقه مراجعة الاتفاقات مع الجانب الصيني، ووصفها بأنها مشروع للاستيلاء على أراضي الدولة.

في بنغلاديش ومع تراكم الديون على الحكومة لتصل لعشرات المليارات من الدولارات، وضعت الصين يدها على أكبر وأهم ميناء بحري فيها وهو مرفأ شيتاغونع.

لقد وعى البعض الخطة والخطر فحاذروا، يقول رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد واصفًا القروض الصينية التي رفضها «لا نريد نسخة جديدة من الاستعمار».

لقد كان الغرب أكثر خبثًا وأكبر مكرًا؛ فقد استعمل المدارس والكنائس لتثبيت سلطته، وأنشأ المنظومات والمؤسسات الدولية التي تُؤكّد هيمنته، وحاول إيجاد نخبة متعلمة تدين له بالولاء وتتخذ من قِيَم المحتل ودِينه بديلاً لها عن قِيمهم ودينهم، وتقوم بأدواره في استبعاد الدول المحتلة. تلك خطة الغرب وهذه خطة الشرق، لا فرق بين من يأكل لحمك مهيَّأ مطبوخًا أو يأكلك نيّئًا.

 من بعد سقوط الدولة العثمانية، واندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ بدأت حقبة الحرب الباردة والقطبية الثنائية، ومع سقوط الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينيات وإلى الآن؛ هيمنت الولايات المتحدة منفردةً فيما عُرِفَ بمنظومة الأحادية القطبية، واليوم تجري محاولات لإحداث اختراق لتلك المنظومة المنفردة، يحاول الروس عسكريًّا والصينيون اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، وسواء نجحت أو فشلت تلك المحاولات، فإن شعوبنا ودولنا وقِيَمنا وحضارتنا ستظل تحت الضغط، بل وحتى أراضينا وأموالنا ستظل مطمعًا للنهب والاستيلاب.

لا فرح بتفوُّق روسيّ أو نجاح صيني في هزيمة الغرب كليًّا أو جزئيًّا، لا خلاص من تبعية غربية للارتماء في تبعية شرقية. وفي أوان الضعف تَجني الحيلة ما لا تستطيعه المواجهة؛ شريطةَ أن يكون المعيار هو رفعة الأمة وعزها، لا بقاء الرؤوس فوق أكوام بالية من حطام بنيان أو إنسان.