ميناء غـزة العائم .. بادرة إنسانية أم حيلة خبيثة لتهجير أهل غزة؟
ما وراء القرار الأمريكي بإنشاء ميناء مؤقت لنقل المساعدات إلى غزة؟، تشير كثير من التحليلات أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هدف بناء الميناء ليس إنسانيا بل وراءه خطة أمريكية إسرائيلية خبيثة.
وسط تضاؤل الآمال في التوصل إلى حل سياسي للأزمة أو اتفاق لوقف إطلاق النار بين دولة الاحتلال وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفي ظل تواصل المجاعة والظروف الإنسانية القاسية التي يتعرض لها أهل قطاع غزة، خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن كاشفًا عن خطة كلّف بها جيشه لبناء رصيف عائم وجسر مؤقت على ساحل قطاع غزة على البحر المتوسط لفتح طريق جديد لتقديم المساعدات الإنسانية، وبمجر الإعلان عن هذه الخطة تكاثرت التكهنات حول الهدف الحقيقي من وراء هذا الميناء العائم؛ هل هي بادرة إنسانية حقيقية لإنقاذ سكان القطاع الذين باتوا على شفا الهلاك بسبب نقص المساعدات الأساسية اللازمة للحياة؟، أم أن ثمة خطة خبيئة تكمن وراء هذا الميناء تتلخص في تهجير سكان القطاع تدريجيًا وخلق واقع جديد على الأرض من أجل وأد قضية فلسطين التاريخية؟، هل هو مجرد تكتيك سياسي من بايدن المقبل على انتخابات رئاسية في بلاده ويريد أن يحدث حلحلة للوضع المتأزم في الشرق الأوسط؟، أم أن هناك ما تخفيه الإدارة الأمريكية العميقة؛ لا سيما وأن إيقاف المأساة الإنسانية كان يمكن أن يحدث بمجرد الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها أو التوقف عن توفير الذخائر والأسلحة للجيش الصهيوني؟
قرار بايدن:
جاء قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن لإنشاء هذا الميناء العائم رسميًا في خطابه عن حالة الاتحاد والذي ألقاه خلال الأيام القليلة الماضية، بررت الإدارة الأمريكية هذا القرار بأنه يأتي استجابةً للتدهور السريع في الأزمة الإنسانية بقطاع غزة، والتي يقترب معها مئات آلاف الأبرياء من حافة الموت جوعًا، لكن في نفس الوقت فقد أثار القرار أسئلة عديدة واندهاشًا كبيرًا، إذ ما يزال بايدن ملتزمًا بتوفير كل ما تحتاجه إسرائيل من أسلحة وذخائر بما يمكنها من الاستمرار في عدوانها الغاشم على القطاع، إضافة إلى رفض بايدن الدعوة إلى وقف كامل لإطلاق النار، وقد ظهر هذا جليًا في الفيتو الأمريكي على أكثر من قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار وإدانة إسرائيل في مجلس الأمن الدولي، وكان من اللافت أن إدارة بايدن لم توفر سوى قدر ضئيل للغاية من المساعدات الغذائية والتي قامت الطائرات الأمريكية بإسقاطها جوا بعد رفض إسرائيل إدخالها عن طريق 6 معابر برية تربط قطاع غزة بالعالم الخارجي، منها معبر رفح مع مصر، والبقية مع إسرائيل.
يرى البعض أن الميناء سيكون وسيلة لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى أوروبا أو دول أخرى. هذه النوايا الخبيثة ليست سوى جزءً من تاريخ طويل من الخطط الإسرائيلية لإخلاء غزة وإعادة توطين الفلسطينيين في مناطق أخرى خارج أرض فلسطين
رغم إعلان الجيش الأمريكي بأنه لا تتواجد قوات أمريكية على الأرض في غزة، إلا أنه أعلن عن مساعدته في إنشاء الميناء العائم لنقل المساعدات، وسبق وأن أوضح المتحدث باسم البنتاغون أن عملية الإنشاء ستستغرق حوالي 60 يومًا، ولكن بمجرد الانتهاء منها، من المتوقع أن يكون الميناء قادرًا على توفير قرابة مليوني وجبة يوميًا، وبشكل عام يمكن قراءة وتحليل المغزى من وراء قرار بايدن بإنشاء الميناء العائم على ساحل غزة، في ضوء النقاط التالية:
● يأتي القرار كمحاولة أمريكية جديدة للمراوغة في إطار سعي إدارة بايدن لإيجاد توازن في حرب غير متوازنة في الشرق الأوسط، حيث تشير شواهد عديدة إلى أن بايدن أصبح محبطًا بشكل متزايد من تحدي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمناشداته لبذل المزيد من الجهد لحماية المدنيين في غزة، رغم أن بايدن ما يزال يعارض وقف إمداد إسرائيل بالذخائر أو استغلال اعتمادها الكامل على الولايات المتحدة للتأثير على مسار القتال.
● يأتي القرار أيضا في ضوء حسابات سياسية انتخابية داخلية يخشى معها بايدن أن تُكلفه فرصة البقاء في البيت الأبيض 4 سنوات جديدة، إذ تشهد الولايات المتحدة عزلة دولية متزايدة بسبب دعمها لإسرائيل، خاصةً بعدما اضطرت إلى استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن 3 مرات مختلفة لمنع الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وقد شهدت الأشهر القليلة الماضية نشوء صدع كبير بين الديمقراطيين، مع تزايد أعداد الذين ينتقدون بايدن لعدم رغبته في ممارسة الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، هذه الانقسامات تحدث بشكل رئيسي بين الديمقراطيين الأكبر سنا المؤيدين لإسرائيل والتقدميين الأصغر سنا الذين هم أكثر تعاطفًا مع محنة الفلسطينيين.
● تضع الحرب بايدن والديمقراطيين بين المطرقة والسندان، إذ يسيرون على حبل مشدود لا يرحم، هم مطالبون بوقف الحرب لإرضاء الأقلية العربية والمسلمة وبعض الأصوات المناصرة لهم في أمريكا، وفي نفس الوقت يتعهدون بالولاء لأكبر حليف للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فاليهود من بين المجموعات الأكثر ليبرالية في الولايات المتحدة وفقًا لأبحاث مركز بيو لعام 2020، و7 من كل 10 بالغين يهود يصّوتون لصالح الحزب الديمقراطي أو يميلون إليه، ولا شك أن قرار إنشاء الميناء قد يخفف من وطأة انتقادات المتعاطفين مع الفلسطينيين، دون إغضاب الإسرائيليين.
تضارب وعقبات:
فكرة الرصيف أو الميناء العائم على ساحل غزة ـ الذي ستبلغ تكلفته أكثر من 35 مليون دولار ـ هي تشبه إلى حد كبير موانئ مولبيري المتنقلة المؤقتة التي أقامتها البحرية البريطانية على شواطئ النورماندي شمال فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، وفيما ستتولى واشنطن القيادة والتنفيذ، سيكون للإسرائيليين نصيبًا من المشاركة والرأي في مدى فاعلية الخطة ونجاحها في توصيل المساعدات، إذ سيتولى مفتشون إسرائيليون في ميناء لارنكا القبرصي فحصَ شحنات المساعدات المتجهة إلى غزة، وتوفر عمليات التفتيش هذه لإسرائيل أداة للتحكم في تدفق المساعدات تحت مزاعم التدقيق الأمني، ولن يكون من الصعب على إسرائيل أن تتحكم كما تشاء في معدلات وكميات المساعدات عند التعامل مع ضباط الخدمات اللوجستية العسكريين الأمريكيين، كما هو الحال عند تعاملها مع مسؤولي الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الإنسانية الأخرى، فلن تُعدَم تل أبيب الوسائل لعرقلة الأمر.
لكن حتى إذا ما انتهت عملية إنشاء الميناء مع إيجاد طريقة فعّالة لحماية القوات الأمريكية التي ستقوم بالبناء، فإن ثمة عقبات أخرى ستظل تواجه مسألة إيصال المساعدات وتوزيعها، فالسفن التي سيتم استقبالها هي سفن ضخمة وثقيلة وستحتاج إلى حراسة مسلحة عندما تصل إلى نطاق ساحل غزة، وأحد الخيارات هو إبقاء المنصة في البحر ونقل البضائع بواسطة قوارب أصغر، وهناك خيار آخر يتمثل في بناء جسر مؤقت يمكّن الشاحنات من نقل البضائع مباشرة، أيضا لم تخض الإدارة الأمريكية في تفاصيل حول كيفية نقل المساعدات التي يتم تسليمها عن طريق البحر من الساحل إلى داخل غزة، فمئات الآلاف ممن يواجهون المجاعة موجودون في الداخل وليسوا بالقرب من الشاطئ، وتبقى المعضلة الكبرى هي: من سيقوم بمهمة توزيع هذه المساعدات؟، لا سيما وأنه لا يكاد توجد منظمات إغاثية في بعض مناطق القطاع، خاصةً شمال غزة، لأن الإسرائيليين يريدون إجبار جميع سكان غزة على النزوح منه، ومن ثم يقيدون الوصول إلى الشمال منذ دخولهم إليه، ويُضاف إلى كل ذلك أن توصيل المساعدات عن طريق البحر لا يحل المشكلة المتمثلة في عدم القدرة على تسليم المساعدات بسلام وسط القصف الإسرائيلي المكثف والقتال البري والقناصة المنتشرين في كل مكان.
أثار قرار بايدن بعض الانتقادات والاستغراب منه نتيجة تضارب الموقف الأمريكي حيال الحرب المستمرة منذ 5 أشهر؛ فبينما يسعى بايدن إلى إنشاء ميناء لتيسير دخول المساعدات الإنسانية، فإنه لا يكترث بإيقاف الذخائر والأسلحة إلى إسرائيل التي تتمادى في القتل والتخريب، وفي غضون الـ 60 يومًا ستستغرقها عملية إنشاء الميناء العائم، سيموت آلاف آخرون بسبب الجوع والمرض.
قال آرون ديفيد ميلر، المفاوض الأمريكي السابق في مفاوضات سلام الشرق الأوسط، إن "الحكومة الإسرائيلية غير راغبة وغير قادرة على تيسير وصول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة نتيجة لحسابات سياسة داخلية، وهم لا يكترثون لمعاناة المدنيين الفلسطينيين ولا بما يتعلق بمستقبل غزة"، أما النائب الديمقراطي من كاليفورنيا، رو خانا، فقال إنه "لا يمكن أن يكون لديك سياسة تقديم المساعدات وإعطاء إسرائيل الأسلحة لقصف شاحنات الطعام في الوقت نفسه، هناك تناقض متأصل في ذلك، وأعتقد أن الإدارة بحاجة إلى التوفيق بين التعاطف الحقيقي والاهتمام الأخلاقي الذي ظهر الليلة الماضية على حياة المدنيين الفلسطينيين مع المساءلة الحقيقية لنتنياهو والحكومة اليمينية المتطرفة هناك".
حلم صهيوني:
بموجب اتفاقات أوسلو للسلام عام 1993م، وعدت الدول الأوروبية ببناء ميناء بحري بالقرب من مدينة غزة في شمال القطاع، لم تُنفذ الفكرة لسنوات إلى أن انهارت تماما عندما قام الفلسطينيون بانتفاضة ضد الاحتلال الإسرائيلي في عام 2000م، ولا يوجد الآن سوى ميناء صيد صغير في القطاع وهو غير مناسب للسفن الكبيرة، ويوجد أيضًا رصيف طويل مبني في البحر بالقرب من خان يونس في الجنوب يستخدم عادة لقوارب الصيد، اليوم وبعد كل هذه السنوات من الفكرة الأوروبية لبناء الميناء جاء الرئيس بايدن ـ الذي شدد مرارًا على أنه صهيوني ودعمه لإسرائيل كامل وغير مشروط ـ ليعلن عن ميناء عائم مؤقت لغزة، كان من الملاحظ أن إسرائيل وافقت على الفور على المقترح، وهو ما يفتح باب التكهنات حول النوايا الخبيثة وراء تلك الموافقة، إذ يرى البعض أن الميناء سيكون وسيلة لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى أوروبا أو دول أخرى.
هذه النوايا الخبيثة ليست سوى جزءً من تاريخ طويل من الخطط الإسرائيلية لإخلاء غزة وإعادة توطين الفلسطينيين في مناطق أخرى خارج أرض فلسطين، فبعد نكسة 1967م شنَّ الجيش الإسرائيلي حملة قاتلة ضد حركات المقاومة الفلسطينية في مخيمات اللاجئين في غزة؛ وتم نقل 16 ألف فلسطيني ممن دمرت إسرائيل منازلهم إلى العريش التي كانت تحتلها إسرائيل، في حين تم نقل 12 ألف من أقارب الفدائيين الفلسطينيين إلى مخيمات جديدة في الصحراء، وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر وقبل انسحاب إسرائيل من قطاع غزة في عام 2005م، اقترح رئيس الأمن القومي الإسرائيلي آنذاك أن تقبل مصر نسبة كبيرة من سكان غزة في مقابل الحصول على أراض في جنوب إسرائيل، وهو ما رفضه الرئيس المصري حينها محمد حسني مبارك، ومع بدء الحرب الإسرائيلية الدائرة الآن على قطاع غزة، كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن خططه لتطبيق سياسة الهجرة الطوعية على الفلسطينيين في غزة على أمل إجلائهم إلى دول أخرى، حينها قال نتنياهو: "مشكلتنا هي الدول التي ترغب في استيعابهم، ونحن نعمل على حلها"، وفي 12 أكتوبر الماضي أمر جيش الاحتلال نحو 1.1 مليون شخص من سكان الجزء الشمالي من القطاع بالإخلاء إلى جنوبه، ولا توجد أي ضمانات بالسماح لهم بالعودة، وفي وقت سابق سرّبت وسائل الإعلام الإسرائيلية وثيقة سرية توضح استراتيجية لدفع سكان غزة جنوبًا في خطوة أولى، ثم عبر الحدود إلى مصر، ليتم نقلهم إلى مخيمات لجوء ثم إلى مستوطنات دائمة في صحراء سيناء، مع لعب الاتحاد الأوروبي دورًا بناءً في الخطة من خلال تمويل إعادة توطين لاجئي غزة واستضافة بعضهم، حيث أشارت الوثيقة إلى إمكانية نقل بعض الفلسطينيين إلى اليونان وإسبانيا على سبيل المثال.
الولايات المتحدة بدورها لا تدخر جهدًا لحشد الدعم السياسي والمالي لخطط التهجير الإسرائيلية، ففي 11 أكتوبر الماضي، أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن الولايات المتحدة تعمل مع مصر وإسرائيل لإنشاء ممر إنساني في سيناء للمدنيين الفلسطينيين الفارين من غزة، وفي نفس الشهر أرسل البيت الأبيض إلى الكونغرس طلبًا رسميًا للتمويل من أجل تلبية احتياجات سكان غزة الفارين إلى البلدان المجاورة، لقد كان طلب التمويل بمثابة إشارة واضحة إلى أن الإدارة الأمريكية تعطي إسرائيل الضوء الأخضر لتنفيذ خططها للتطهير العرقي والتهجير، ويبدو أن ميناء غزة العائم المزمع إقامته سيكون جزءًا من هذه الخطط، وإن استُعمِلَ مبدئيًا في إدخال بعض المساعدات.
_____________________________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر