فكر قبل أن تسرق
كثيرًا ما سمِعنا عن قضايا في المحاكم من أجل المال والإرث، فالأخ يُقاضي أخاه، والابن يقاضي عمه، وغيرها من القصص، وتجد الأقارب صاروا أعداءً، فلماذا أيها الإنسان؟ هل يستأهل المال كل هذا؟ وهل لأجله تُقطَّع الأرحام، ويصبح الإنسان عدوَّ أخيه وعمه؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
كثيرًا ما سمِعنا عن قضايا في المحاكم من أجل المال والإرث، فالأخ يُقاضي أخاه، والابن يقاضي عمه، وغيرها من القصص، وتجد الأقارب من لحم ودم صاروا أعداءً يقف بعضهم ضد بعض أمام المحاكم، ويقذف بعضهم بعضًا بتُهَمِ السرقة والنصب، وأكل مال اليتيم، وغيرها من الجرائم، بل أحيانًا يصل الحد إلى القتل والأذى، فلماذا أيها الإنسان؟ هل يستأهل المال كل هذا؟ وهل لأجله تُقطَّع الأرحام، ويصبح الإنسان عدوَّ أخيه وعمه؟ ملعونٌ ما في الدنيا إن كان سيؤدي إلى قطيعة الرحم أو سفك الدماء، وملعون ما فيها إن كان سيؤدي إلى دخول النار وعذاب القبر؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذِكْرَ الله وما والاه، أو عالمًا أو متعلمًا»[1]، وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]، فالدنيا بما فيها زائلة وذاهبة، ولن يبقى لأحدٍ فيها سوى ما قدَّم من عمل، فَلِمَ كل هذا الهلع والموت لأجلها؟ ألَا تدري أن المال يذهب وينتهي، وتأكله متطلبات الحياة أسرع مما تتصور، وأنه يمكن كسبه وتحصيله أيضًا سواء بسهولة أو صعوبة؟ فهي أرزاق من الله يوزعها بين عباده وستصلهم حتمًا لا محالة؛ قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اتقوا الله، وأجْمِلوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفيَ رزقها، وإنْ أبطأ عنها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، خُذُوا ما حلَّ، ودَعُوا ما حرُم»[2].
ومن يأكل أموال الناس بغير حقٍّ، أو يأكل مال اليتيم، أو يأخذ إرثًا ليس له، فهو في وعيد النار، وقد حذَّر الله تعالى المؤمنين من أكل أموال الناس بالباطل؛ حيث قال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقال فيمن يأكل مال اليتيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وهذا وعيد شديد لمن يقوم بهذه الجريمة، ولا بد له أن يُرجِع المال لأصحابه إن أراد أن يتوب، وحقوق العباد لا تسقط إلا بردِّها أو عفوِهم، ثم التوبة والاستغفار وطلب السماح من الله، وما من مسلم أكل مال مسلم إلا أصابه مع الوقت تأنيب الضمير، وأرَّق ليله الندمُ والخوف من عذاب الله ووعيده، وصار ذلك المال حسرة وعذابًا، ونغَّص عليه عيشه، فليفكر كل إنسان قبل أن يأكل مال غيره مرارًا: هل هذا المال سيحل مشكلته؟ هل سيرتاح بعد أن يسرقه؟ هل ستمر جريمته تلك دون عقاب، أم ستقبض عليه السلطة ويقدم للمحاكم، ويُسجَن أو تُقطَع يده؟ هل سينجو من عذاب الآخرة؟ هل سيتركه ضميره وشأنه؟ هل سيستطيع النوم والعيش بسلام بعدها؟ هل سيتركه صاحب الحق ولا ينتقم منه أو ينتقم في أطفاله؟ هل سيتركه الله دون أن يرُدَّ له ظلمه ذلك بعقاب دنيوي؟ هل سيبقى له المال الذي سرقه ولا ينفذه الدهر ومصاريف الحياة؟ وهل...
فيا أيها الإنسان، فكِّر بأبنائك قبل أن تسرق مال شخص آخر، وكيف أنهم سيتأذَّون من فعلك هذا، إذا أصبح والدهم سارقًا، ورد سجون، أو قُطِعَتْ يده، وفكر بهم وبسلوكهم الذي سينحرف مما سيتعلمونه منك في السرقة، وفكر بهم إذا لحقك أذى ممن سرقت ماله، فقتلك، وأصبحوا يتامى جياعًا، أو إن انتقم منك بأذاهم، وفكر في كل هذا وفي غيرها من الاحتمالات، أليس أسلم لهم أن تكتفي برزقك القليل، وتأتيهم به بوجه طلق، يحمل حنان الأب ورعايته، فترى فرحة الدنيا في عينهم؟
وماذا عن زوجتك التي تحبك وتنتظر رجوعك للبيت كل يوم بشوق ولهفة؟ ألم تفكر بما سيحل بها إن رُمِيتَ في السجن، وتركتها مع الصغار مكسورة الجناح، حزينة على فقدك، ومجهدة ومهمومة بتدبير لقمة العيش لهم؟ فلا تدري هل تجلس بالبيت لترعاهم أو تخرج لتكسب المال، فترجع تجدهم ضائعين في البيت دون رقيب؟ لماذا تريد أن تقلب حياتها عذابًا وخوفًا وفقرًا وقلقًا؟ لماذا تريد أن تخرب عيشها السعيد بك وبأطفالها؟
وفكِّر بوالديك قبل أن تسرق مال غيرك، كيف سيصعقهم خبر جرمك هذا؟ كيف سيتلقون خبر قبض الشرطة على ابنهم الذي طالما رعَوه وأحاطوه بالحماية والرحمة والعطف، ابنهم الذي بذلوا حياتهم في تأديبه وتنشئته خير نشأة، وتعليمه الدين والقرآن والعلم، الذي أنفقوا عليه الغالي والنفيس في تربيته، ليعيش ويكبَر، وينجح ويتزوج، ويروا أحفاده يلعبون ويمرحون؟ لماذا تريد أن تنغِّص فرحتهم بك، وتفجعهم في آخر عمرهم؟ لماذا تريد أن تسيل الدمع من عيونهم التي أجهدها الزمن، وضعف بصرها في مكابدة الحياة، وكسب الرزق الحلال لتعيش أنت؟ لماذا تريد أن تسيء لسمعتهما بعد أن عاشا حياتهما بسمعة طيبة بين الناس، واحترامهم لهم؟ لماذا تريد أن تفضحهم بين الجيران والأهل والأصحاب؟ فكِّر بألمهما وحسرتهما عليك إن سمعا بخبر سجنك، فكر بكيف أنهما سيفتقدانك وينفطر قلبهما عليك.
وفكِّر بأختك حبيبتك، كم ستفتقدك وتفتقد حنان الأخ وحبَّه ورعايته وحمايته، فكر كيف ستتركها وحيدة، وكيف سينظر لها المجتمع إن صارت من أسرة لها سوابق، وكيف تُسيء لسمعتها، ولن يقبل أحدٌ الزواج بها، بعد أن صارت أختَ سارق، أو كيف أن فعلتك تلك وسجنك سبب لها المشاكل والنفور من زوجها، أو سبب في طلاقها وخراب بيتها.
وفكر بأصدقائك عندما تسقط في نظرهم، وينظرون إليك نظرة اشمئزاز، فقد أصبحت من عداد اللصوص والمجرمين، وفكر كيف أنهم سيفرون منك ويمضون في طريق مستقبلهم، ويتركونك في السجن، ولا ينظرون إلى الوراء لتفقُّد حالك، فلهم مستقبل يسارعون للحاق به، ولا يريدون أن يشغلوا بالهم بسارق أو رد سجون مثلك.
فكر في عذاب الله ووعيده الذي توعَّد به من يسرق مال غيره، ألَا تخشى عذابه وبطشه؟ ألا تخشى انتقامه منك في الدنيا والآخرة؟ ألا تخشى أن يكشف أمرك ويُطبَّق عليك الحد؟ قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
ففكِّر وفكِّر بكل هذا وغيره قبل أن تسرق، وأعِدْ حساباتك وتقديراتك، فقِفْ ولا تُهلِك نفسك، وتهلك صغارك وأهلك معها، وتضيع دنياك وآخرتك، اسْعَ في رزقك وعملك، واسعَد بما جنيت، وارضَ بما قسم الله لك، ولا تتطلع لما عند الناس، واسألِ الله تعالى أن يبارك لك فيه، ويرضيك به، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3336). وأخرجه الترمذي (2322)، وابن ماجة (4112)، والبيهقي في (شعب الإيمان) (1580).
[2] صححه الألباني في صحيح الجامع (2742).
____________________________________________________
الكاتب: د. منال محمد أبو العزائم
- التصنيف: