رمضان والصدقة

منذ 2024-03-25

في الصدقة تزكيةٌ للمال، وتطهيرٌ للبدن، ووقايةٌ لمصارع السوء، في الصدقة دفعٌ للبلايا والمصائب والأمراض

إنكم في شهر لا يشبهُه شهر، عظيم الأمر، جليل القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تُستقصى، يكفي هذا الشهر منزلة أن فيه انزل القران.

شهرٌ يفوق على الشهور بليلةٍ   **   من ألف شهر فُضّلت تفضيلا 

طوبى لعبدٍ صح فيه صيامـه   **   ودعا المهيمن بكرة وأصيــلا 

وبليله قد قام يختـــــم ورده   **   متبتلاً لإلهه تبتيــــــــــــــــلا 

 

عباد الله:

ألا وإن من أعظم ما أوجب الله عليكم في أموالكم الزكاة التي هي ثالث أركان الإسلام وقرينة الصلاة في محكم القرآن، وجاء في منعها والبخل بها الوعيد بالنيران. قال الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].

 

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} ﴾ [التوبة: 35].

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية الأولى: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع، وهي الحية الخالي رأسها من الشعر لكثرة سمها، مُثَّل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه، -يعني شدقيه-، يقول أنا مالك أنا كنزك» (رواه البخاري).

 

وقال في تفسير الآية الثانية: ( «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أُعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد» )(رواه مسلم). وحق المال هو الزكاة. وهنا رسالة للنساء من ملكت في ذهبها النصاب وهو خمسة وثمانون جرام.

 

أيها المسلمون:

إنه والله لا يُحمى على الذهب والفضة في نارٍ كنار الدنيا، إنما يُحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا كلها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا.

 

أيها المسلمون:

إنه إذا أُحمي عليها لا يكوى بها طرف من الجسم متطرف، وإنما يكوى بها الجسم من كل ناحية الجباه من الأمام والجنوب من الجوانب والظهور من الخلف.

 

هذه الأعضاء التي كانت تعرض عن الفقراء والمساكين وتتكبر عليهم.

 

أيها المسلمون: إنه إذا كوي به الجسم لا تترك حتى تبرد وتزول حرارتها، ولكنها كلما بردت أعيدت فأحميت.

 

أيها المسلمون: إن هذا العذاب ليس في يوم ولا في شهر ولا في سنة: ولكن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. يا الله أجرنا من النار واجعلنا من عتقاء هذا الشهر من النار.

 

فيا عباد الله يا من آمنوا بالله ورسوله، يا من صدّقوا بالقرآن وصدقوا بالسنة، ما قيمة الأموال التي تبخلون بزكاتها، وما فائدتها، إنها تكون نقمة عليكم وثمرتها لغيركم.

أموالنا لذوي الميراث نجمعهـــــــا   **   ودورنا لخراب الدهر نبنيهـــــــــــا 

كم من مدائن في الآفاق قد بُنيت   **   أمست خراباً وأفنى الموت أهليها 

لا تركنن إلى الدنيا وما فيهــــــــــا   **   فالموت لا شك يُفنينا ويُفنيهــــــا 

 

عباد الله:

أدوا الزكاة طيبةً بها نفوسكم أخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم:

والله الذي لا إله إلا هو لو أخرج الأغنياء زكاة أموالهم ووزّعت في مصارفها المحددة في الشرع لما رأينا فقيراً ولا مسكيناً ولا جائعاً ولا عارياً ولا محروماً، ولا رأينا المتسولين بالمئات بل بالآلاف هذا ما ظهر أما العفيفين والعفيفات في البيوت.

 

وهذا ما حدث في عصر الخليفة العادل الإمام الزاهد عمر بن عبد العزيز، يوم أن أُقيم العدل في الأمة، ويوم أن عرف الأغنياء حق الله في أموالهم، جمعت الزكاة في عصر عمر بن عبد العزيز، وأراد عمر أن يوزعها فلم يجد فقيراً واحداً في أنحاء الأمة، عقمت أرحام الدولة العمرية أن تلد فقيراً أو مسكيناً! وكان عمر بن عبد العزيز يحكم أُمة تمتد حدودها من الصين شرقاً إلى باريس غرباً، ومن حدود سيبيريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً، ومع ذلك جمع عمر بن عبد العزيز الزكاة فلم يجد مسكيناً واحداً يأخذ الزكاة، وفاض المال في بيت مال المسلمين، فأصدر عمر بن عبد العزيز أمراً بأداء الديون وقال: ”اقضوا عن الغارمين"، فقضى ديون الناس ومازال المال فائضاً، فأصدر أمراً بإعتاق العبيد من بيت مال المسلمين، فأعتق العبيد ومازال المال فائضاً في خزينة الدولة، فأصدر أمراً بتزويج الشباب وقال: (أيّما شاب أراد أن يتزوج فزواجه على حساب بيت مال المسلمين) تزوج الشباب وبقي المال.

 

وإن من أعظم أنواع البر في هذا الشهر المبارك التقرب إلى الله عز وجل بإخراج المال طيبةً به نفوسنا، كريمةً به أيدينا، نرجو ثوابه عند الله عز وجل، وقد علمنا يقينًا أن هذه النفقة سببٌ لدخول الجنة، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ*كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ*وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15-19]، وهذه النفقة كذلك سببٌ في دخولك - يا عبد الله - في زمرة المتقين، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 2-3]، كما أنّ هذه النفقة سببٌ لمضاعفة الحسنات، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].

 

هذه النفقة - أيها المسلمون - هي سبيل الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، الذين كانوا يجودون بما آتاهم الله من فضله، يبتغون ما عند الله من ثوابٍ وأجر، وكان نبيكم صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان.

 

وقد اقتدى به أصحابه رضوان الله عليهم، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعانا رسول الله إلى الصدقة، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا قطّ، فجئت بنصف مالي إلى رسول الله، فقال ليَ: «وما تركت لأهلك يا عمر؟» قلت: تركت لهم مثله، فجاء أبو بكرٍ رضي الله عنه بماله كله، فقال له: «وما تركت لأهلك؟» قال: تركت لهم اللهَ ورسوله.

 

أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه كان عنده بيرحاء: بستانٌ من أطيب بساتين المدينة وأكثرها ثمرًا، لما نزل قول الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، جاء رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، قد أنزل الله ما قد علمتَ، وليس لي مالٌ أطيبَ من هذا البستان، هو لك يا رسول الله، ضعه حيث شئت مما أراك الله أدخره عند الله، فقال: «بخٍ بخٍ، ذاك مالٌ رابح، اجعله في أهلك وقرابتك»، فجعله أبو طلحة رضي الله عنه في أرحامه وبني عمومته، قسم عليهم ذلك البستان، يرجو ما عند الله من فضلٍ وإحسان.

 

أيها المسلمون:

الصدقة تطفئُ غضب الربِّ كما يطفئُ الماءُ النار، والصدقةُ أجرها مُضاعف وثوابها عظيم، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، في الصدقة تزكيةٌ للمال، وتطهيرٌ للبدن، ووقايةٌ لمصارع السوء، في الصدقة دفعٌ للبلايا والمصائب والأمراض، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «داووا مرضاكم بالصدقة، حصنوا أموالكم بالزكاة». وعن عمرو بنِ عوفٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ( «إنّ صدقةَ المسلم تزيد في العمُر، وتمنَع ميتةَ السوء، ويذهِب الله بها الكبرَ والفقر» ) (رواه الطبرانيّ).

 

بين أيدينا علاج مبارك نافع ننساه ألا وهو الصدقة.

 

الصدقة - أيها المسلمون عباد الله - تنفع العبد يوم القيامة، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، الصدقة ترفع العبد عند الله درجاتٍ، وتخفف عليه الحساب، وتثقل الميزان، وتكون سبب جوازه على الصراط، كما أنّ الصدقة سببٌ لظل العبد في ذلك اليوم العبوس القمطرير في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظلَّ إلا ظله، ذاك الذي تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.

 

أيها المسلمون، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، قد يقول قائل: أنا لا أملك إلا ما أقتات أنا وأهلي وعيالي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف درهم»، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «رجلٌ عنده درهمان فتصدق بأحدهما، فقد تصدق بنصف ماله، ورجلٌ عنده مالٌ كثير فأخذ من عرضه مائة ألفٍ فأنفقها في سبيل الله»(رواه النسائي وهو في صحيح الجامع).

 

رُبَّ عملٍ قليلٍ تُكثِّره النية، قد تتصدق بتمرة فيقيك الله بها حر النار، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم يقول صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقِّ تمرة»، تمرة تتقرب بها إلى الله عز وجل، ترجو ثوابه وتخاف عقابه، تنفقها في سبيل الله، تطعم بها جائعًا، تهديها إلى مسكين، تدخل بها السرور على مسلمٍ، هيَ عند الله عز وجل بميزانٍ عظيم.

 

وبعد عباد الله:

يا أيها الغني، اعلم بأن الصدقة سببٌ لبركة المال ونمائه، سببٌ لحصول النعمة وتجددها من الله عز وجل، فما استُجلبتْ نعم الله عز وجل ولا استُدفِعت نقمه بمثل الإحسان إلى عباده. والصدقة تدفع ميتة السوء، واعلم - أيها الغني - أنَّ الصدقة لا تنقص المال، روى الترمذي - وقال: حسن صحيح - وأحمد وبعضه في مسلم، عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ أقسم عليهنّ، وأحدثكم بحديثٍ فاحفظوه: ما نقصَ مالٌ من صدقة، وما ظُلِم عبدٌ مظلمةً فعفا إلا زاده الله بها عزًا، وما فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر». أنفق - أيها الغني - ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، واعلم بأنّ الله عز وجل خزائنه ملأى، لا يغيضها عطاء، ويده سحّاء الليل والنهار، وهو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.

 

ويا أيها الفقير، يا من قُدِر عليك رزقك، اعلم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق عدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فَلْوه -أي: كما يربي أحدكم حملاً أو فرسًا أو دابةً في بيته- حتى تكون مثل الجبال»، هذه التمرة التي تصدقت بها ترجو بها وجه الله عز وجل، حالك كحال الصالحين الذين قالوا: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} ، هذه التمرة تجدها يوم القيامة حسناتٍ كأمثال الجبال.

 

فالبدار البدار أيها المسلمون، أدخلوا السرور على أرحامكم وعلى إخوانكم، وأنفقوا من أموالكم، واعلموا أن الله عز وجل يخلف عليكم بخيرٍ مما أنفقتم، {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

 

أيها المسلمون، اعلموا أنّ إمساك المال والشح به لا يزيده، بل يمحقه ويُذهب بركته، وينزل غضب الربّ على صاحبه، فإنّ الله عز وجل نعى على أقوامٍ فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 -77]، وقد ذمَّ الله عز وجل في القرآن من يبخلون بهذا المال، وأثنى على من يوقَ شحَّ نفسه، ووصفه بالفلاح.

 

يا مسلم، يا عبدَ الله، قد تُطعم أخاك على جوعٍ فيجزيك الله من جنس عملك، يطعمك يوم القيامة من ثمار الجنة، قد تكسو مسلمًا على عُريٍ فيكسوك الله عز وجل من حُلل الجنة، تقدم مالك تبتغي به وجه الله عز وجل يقيك الله به حرَّ النار يوم القيامة.

 

إن بعض الناس لا تجود نفسه بمال ولا يقبل أن ينفق، بل ربما يعدّ المنفقين والمتصدقين ممن خفت عقولهم وذهبت أحلامهم، حتى إذا أصاب ذلك المسكين داءٌ عضال ومرضٌ فتّاك وعاين الموت بدأ ينفق ماله يمنةً ويسرة، بعدما ذهبت نضرة الشباب وبهجة الدنيا، شتان شتان بين هذا وذاك، شتان شتان بين من أنفق حال شبابه وقوته، حال حضور ذهنه واكتمال رغبته في هذه الدنيا، وبين هذا الذي تصدق بعدما عاين الموت، بعدما أيقن أنّ الدنيا قد ولت مدبرة وأن الآخرة قد جاءت مقبلة بدأ يتصدق، شتان شتان بينهما. وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة»(رواه أحمد في المسند).

 

أيها المسلمون، خير من توجهون إليه صدقاتكم أرحامكم، قراباتكم، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقةٌ وصلة»، ثم ثانيًا: من كان عفيفًا متعففًا ذا عيال لا يسأل الناس ولا يتَفَطّن له فيُتصدق عليه، اقرؤوا إن شئتم: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273].

 

عبادَ الله:

قال عمر بن العزيز رضي الله عنه: «الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه».

 

الصّدقة لها معنًى واسع، فهِي تشمَل عملَ كلّ خير، إرشادُ الضالّ، إماطةُ الأذى، العدلُ بين اثنين، التبسّم في وجه أخيك المسلم، غرسُ شجرة، تعليمُ علمٍ نافع، إصلاح ذات البَين، الكلمَة الطيّبة صدقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على كلّ مسلمٍ صدقة»، فقالوا: يا نبيَّ الله، فمن لم يجد؟ قال: «يعمل بيده فينفَع نفسَه ويتصدّق»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجةِ الملهوف»، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمَل بالمعروف، وليمسك عن الشرّ، فإنّها له صدقة» (أخرجه البخاري).

 

وأخيرًا: رحل النصف الأول من رمضان، ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء ولا عويل، وما بقي أكثر مما فات، فلنُرِ الله من أنفسنا خيرًا، فالله الله أن يتكرر شريط التهاون، وأن تستمر دواعي الكسل، فلقيا الشهر غير مؤكدة، ورحيل الإنسان مُنتظر، والخسارة مهما كانت بسيطة ضعيفة فهي في ميزان الرجال قبيحة كبيرة.

 

هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].

__________________________________________________________
الكاتب: د. أمير بن محمد المدري