معاملة المدنيين في أثناء القتال في الشريعة الإسلامية والشريعة اليهودية

منذ 2024-09-10

وقد ضربت المقاومة الفلسطينية أروع الأمثلة في معاملة الأسرى معاملة كريمة تليق بأخلاق الإسلام، في حين ضرب الاحتلال أقبح الأمثلة في معاملة الأسرى، وقد شهدت شاشات التفلزة الكثير والكثير من هذه الفيديوهات التي توثق...

يقصد بالمدنيين كل إنسان لا يشارك في القتال؛ رجلًا كان أو امرأة، شيخًا كان أم شابًّا، ففي أثناء القتال ضرب الإسلام أروع الأمثلة في النُّبْل والفروسية والإحسان لغير المحاربين، وأوجب الحماية الكاملة لكل إنسان لا يشارك في القتال، وأوجب حماية الحيوانات والنباتات والحجر والشجر، وكل مظاهر وأشكال البنية التحتية- بلغة العصر- وهذا سبق حضاري لم تعرف له الإنسانية نظيرًا عبر الزمان والمكان، وقد ضربت المقاومة الفلسطينية أروع الأمثلة في معاملة الأسرى معاملة كريمة تليق بأخلاق الإسلام، في حين ضرب الاحتلال أقبح الأمثلة في معاملة الأسرى، وقد شهدت شاشات التفلزة الكثير والكثير من هذه الفيديوهات التي توثق المعاملة الحسنة من جانب المسلمين في غزة، والمعاملة الشريرة من جانب الاحتلال.

 

وكان هذا امتثـالًا لأوامر الشرع الحنيف التي تفرض معاملة الأسرى ومعاملة المدنيين معاملة كريمة، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان في أثناء القتال، فعن ابن عمر- رضي الله عنهما-: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان»؛ رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ.

 

وفي الوصية الشهيرة للخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه – لقائده يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما – "إنك ستجد أقوامًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن شاةً ولا بعيرًا إلا لمأكله، ولا تحقرن نخلًا، ولا تغلل، ولا تجبن"؛ (رواه مالك في الموطأ) .

 

فهذه الأحاديث توضح الأساس المتين والدستور القويم لمعاملة المدنيين في أثناء القتال، وأن الإسلام فرض حماية المدنيين في القتال حمايةً شاملةً، تشمل حماية أرواحهم، وصيانة دمائهم، وتأمين ممتلكاتهم، وقداسة أعراضهم، وحمايتها حمايةً كاملةً، وتجريم المساس بها، وبهذا حقَّق الإسلام سبقًا حضاريًّا للحضارة الإنسانية قاطبةً بأكثر من ألف وثلاثمائة عام، قبل أن تعرف الحضارة الإنسانية اتفاقيات جنيف، ومعاهدات حقوق الإنسان، وأمثال هذه المعاهدات الكثيرة التي لا يعرفها المنتصر أبدًا، ولا يذكرها إلا ضحايا الحروب وهم يصرخون، ولا يسمع أحد أنينهم، ولا يتأوَّه أحد لتوجُّعهم.

 

والكلام النظري رائع جدًّا في كل الأمم، وسائر الدول، ومختلف الحضارات، والتطبيق العملي تسوده الوحشية، إلا في دين الإسلام، فكان التطبيق مثاليًّا، كما كانت النظرية مثاليةً سبَّاقةً في ميدان الحضارة، ولنضرب على ذلك مثالًا يؤكد ما نقول، ونثبت من خلاله أن الحرب في الإسلام لحماية النفوس، وفي غير الإسلام لقطع الرؤوس، وأن الإسلام يحمي المدنيين وممتلكاتهم في أثناء القتال.

 

غزوة تبوك نموذجًا:

كانت غزوة تبوك في رجب سنة 9 هـ، وكان تعداد جيش المسلمين 30 ألف مقاتل بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

خرج الجيش من المدينة المنورة ليُؤدِّب جيش الرومان أكبر قوة عسكرية في العالم في حينه، واستغرق جيش المسلمين شهرًا في الطريق حتى يصل إلى تخوم أرض الروم في تبوك، وقبل وصول جيش المسلمين فَرَّ هاربًا من أمامه جيشُ الروم، وهو أكبر قوة عسكرية في العالم في هذا الوقت.

 

مكث النبي صلى الله عليه وسلم في أرض تبوك عشرين يومًا ليثبت للعالم وقتها تفوُّق جيش المسلمين على جيوش الرومان التي كانت تحكم قرابة نصف العالم في هذا الوقت، ثم قَفَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عائدًا إلى المدينة المنورة بجيوش المسلمين مُظفَّرًا بنَصْر تاريخي.

 

ولنا هنا ملاحظات تؤكِّدها وقائع التاريخ:

1- لم يقتل جيش المسلمين في هذه الغزوة فردًا واحدًا من الكُفَّار ولا من غيرهم.

 

2- لم يجرحوا فردًا واحدًا.

 

3- لم تُدمَّرْ قرية ولا مدينة ولا قبيلة على مدار شهر ذهابًا وشهر إيابًا وعشرين يومًا مكوثًا في تبوك.

 

4- لم تُغتَصب امرأة واحدة.

 

هل رأى العالم في التاريخ كله جيشًا قوامه ثلاثون ألف مقاتل يخرج في طريق طويلة تقترب من ألف كيلو متر أو يزيد، ويمكث في مهمته قرابة ثلاثة أشهر، ويمُرُّ على الأخضر واليابس، والخرب والعامر، ولا يقتل إنسانًا واحدًا، ولا تُغتَصب امرأة واحدة، ولا تخرب قرية واحدة؛ بل أكثر من ذلك لم يغتصبوا دينارًا ولا درهمًا من غيرهم، ولم يُدمِّروا حَجَرًا، ولم يقتلعوا شجرًا، ولم يقتلوا بَشَرًا.

 

الوقائع والتاريخ يثبتان للدنيا كلها أن جيش المسلمين يتربَّع على قِمَّة أخلاق العالم كله بلا منافسٍ ولا منازعٍ، وأن حروب المسلمين كانت لحماية النفوس، وحروب غيرهم كانت لقطع الرؤوس، وأن دين الإسلام يأمر بالمحافظة على نفوس الأعداء والأولياء على السواء.

 

معاملة المدنيين في أثناء القتال في الشريعة اليهودية:

تأتي النظرية دائمًا بتعاليم مثالية، وقيم جمالية، وأخلاق رفيعة، ومبادئ نبيلة، وحين يقوم الإنسان بتطبيق هذه النظرية على أرض الواقع، تحدث تجاوزات كبيرة، وأخطاء جسيمة في الأعم الغالب من واقع المجتمعات البشرية.

 

وفي تجارب التاريخ الطويلة تثبت الوقائع بما لا يدع مجالًا للشك، أن الإنسانية لم ترتقِ إلى قمة الحضارة الإنسانية إلا حين اتخذت الإسلام دينًا، وهي مرشحة للعودة إلى القمة، كلما عادت إلى دين الإسلام.

 

أما شريعة اليهود الماثلة أمامنا، والبادية أمام ناظرينا، فقد جاءت بمبادئ سافلة، وتعاليم فاحشة تدعو إلى الشرور التي لا تخطر على بالٍ، فتوراة اليهود تدعو إلى الإبادة الجماعية لأمم الأرض كلها التي لا تدين باليهودية، وإذا بحثت عن المافيا، والسكارى، والمشردين فلن تجد دينًا أحَلَّ الموبقات، وأباح المهلكات، ونشر الفساد مثل توراة اليهود، وإذا كانت المبادئ النظرية على هذا الدرك من الانحطاط، فكيف سيكون التطبيق العملي؟ لا شك أنه سيكون الصورة الأوقح لحيوان في شكل إنسان، وسيبدو جليًّا أنه الأشدُّ سقوطًا، والأسرع انحطاطًا، والأقبح منظرًا، والأضل سبيلًا، يقول الدكتور محمد عمارة: "أما موقف اليهودية التوراتية، من قتال وقتل الآخرين والأغيار، فإنه بإيجاز: الإبادة لكل الآخرين، حتى ولو كانوا لا علاقة لهم بالقتال وفنونه، أو حتى نيته والتفكير فيه، الإبادة لمطلق الناس، وعموم النفوس؛ بل وللبيئة والمحيط اللذين يعيش فيهما هؤلاء الآخرون، شريطة أن يكون اليهود على هذه الإبادة قادرين".

 

وسننقل نصوصًا قليلة، ومقطوعات يسيرة من توراتهم التي حرَّفوها وادَّعوا أنها من عند الله {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].

 

التوراة تدعو إلى إبادة غير اليهود بحرقهم بالنار، وبأبشع صور الإبادة، وتنسب هذا الجرم الذي يترفع الشيطان عن قوله إلى الله تبارك وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا، "إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها.. فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة، وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلا إلى الأبد، لا تُبنى بعد.. لكي يرجع الرب عن حُمُوِّ غضبه، ويعطيك الرحمة"؛ (سفر التثنية: إصحاح: 13:17).

 

فهل هذا إله، من يزعمون أنه لا يرحم، إلا المجرمين، وليس أي مجرمين، إنهم لا بد أن يحرقوا بالنار، وأن يقوموا بجرائم إبادة جماعية لغير اليهود، أو من يسمونهم الأمميين أو الأغيار، ومن هؤلاء الأغيار: المديانيين، فقد أمر الرب- يهوه- النبي موسى بقتل المديانيين بحرقهم، وحرق ممتلكاتهم، وكأنه رئيس عصابة، وأحيانًا تجد عند رئيس العصابة شيئًا من الرحمة، أما هؤلاء فلا يعرفون من الرحمة شيئًا، جاء في سفر العدد: "وكلم الرب موسى قائلًا: انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين.. فكلم موسى الشعب قائلًا: جردوا منكم رجالًا للجند، فيكونوا على مديان، كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر.. وسبى بنو إسرائيل نساء مديان، وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم، وجميع مواشيهم، وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار، وأخذوا كل الغنيمة، وكل النهب من الناس، والبهائم، وأتوا إلى موسى وألعازار الكاهن، وإلى جماعة بني إسرائيل بالسبي والنهب، والغنيمة"؛ (سفر العدد: إصحاح: 31).

 

فهذه التوراة التي يزعمون أنها كتاب مقدس من عند الله - وهذا كذب مفضوح تعلمه الدنيا كلها، المهم أنهم يدينون بها كتابًا مقدسًا من عند الله حسب زعمهم - جاء في توراتهم هذه، أن الرب- يهوه- يأمرهم بالإبادة الجماعية، لأهل الأرض جميعًا، وإلا سيحلُّ بهم عقاب الله، وأنا كاتب هذه السطور أحسب أن الشيطان نفسه لا يقوى على اختراع هذا الإجرام، جاء في سفر العدد: "وكلَّم الربُّ موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلًا: كلِّم بني إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم.. تملكون الأرض وتسكنون فيها.. وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذي تستَبْقُون منهم أشواكًا في أعينكم، ومناخس في جوانبكم، ويضايقون في الأرض التي أنتم ساكنون فيها، فيكون أني أفعل بكم، كما هممت أن أفعل بهم"؛ (سفر العدد: إصحاح: 33).

 

فأين هذا من تعاليم الإسلام وأحكام القرآن التي تدعو إلى التعاون، والتراحم والتكافل والبر والعدل بين الإنسانية كلها، والتي لا تفرق بين عرب وعجم، ولا بين أسود ولا أبيض؟! جاء في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران "لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين".

 

وانظر إلى كتاب الله عز وجل وهو يقول: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

 

فالقرآن الكريم صريح جدًّا في تحريم قتل النفس، والنفس هنا كل نفس إنسانية مسلمة أو كافرة، فقتل غير المسلم حرام؛ بل إن إيذاء غير المسلم حرام، إنها تعاليم إنسانية مقابل تعاليم شيطانية إرهابية.

 

تعاليم القرآن تربي الإنسان، وتهذِّب الوجدان، وترقِّق القلوب، وتبني الإنسانية الفاضلة، وترتقي بالإنسانية إلى قمة الحضارة مقابل تعاليم التوراة المحرفة التي تدمِّر العمران، وتقتل الإنسان، وتخرب البنيان، وتأمر بالإبادة الجماعية لغير اليهود.

______________________________________________________
الكاتب: أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي