اتق المحارم تكن أعبد الناس

منذ 2024-05-21

"ليست التقوى قيامَ الليل وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله، وتَرْكُ ما حرَّم الله، فإن كان مع ذلك عملٌ فهو خير إلى خير"

الحمد لله قضى فأسقم الصحيح وعافى السقيم، قسَّم عباده إلى قسمين طائعٍ وأثيم، فمنهم من أطاعه فكان من الطائعين الفائزين، ومنهم من عصاه فكان من العاصين الخاسرين، ومنهم من تردَّد بين الأمرين وإنما الأعمال بالخواتيم، خرج موسى عليه السلام خائفًا يترقَّب فعاد لأهله وهو الكليم، وذهب ذو النون مغاضبًا فالتقمه الحوت وهو مليم، وعاش محمد صلى الله عليه وسلم يتيمًا فكان الفضل لذلك اليتيم، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا شيء يُعجزه، ولا إله غيره، أول بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يُشْبِه الأنام، حيٌّ لا يموت قيُّوم لا ينام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه وخليله، صلى عليه بارئ العباد ما جرت الأقلام بالْمِداد، وما أمطرت سحبٌ وسَالَ وادٍ، وأهله وصحبه ومن سلك سبيلهم، ما دار نَجْمٌ في فلك؛ أما بعد:

فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند حسنه الألباني عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعملَ بهن أو يُعلِّمهن من يعمل بهن» ؟ قال: قلت: أنا يا رسول الله، قال: فأخذ بيدي فعَدَّ فيها خمسًا، وقال: «اتَّقِ المحارمَ تَكُنْ أعْبَدَ النَّاس، وارضَ بما قسم الله لك تَكُنْ أغنى الناس، وأحْسِنْ إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تُكْثِر الضَّحِكَ؛ فإن كثرة الضحك تُميت القلب»، هذا الحديث من جوامع كَلِمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تضمَّن خمس وصايا هي من أعظم ما يوصي به مسلمٌ أخاه، مما يتميز به ديننا، ويُسجَّل من محاسنه الجليلة.

 

أولى هذه الوصايا: الأمر باتَّقِاء المحارم، والمحارم هي ‏المحرَّمات التي حرمها الله تعالى، والكبائر التي نهى عنها الإسلام، وجاء ذِكْرُها في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ من مثل قول الله تعالى من سورة الأعراف:  {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}  [الأعراف: 33]، ومعنى  «اتَّقِ المحارمَ تَكُنْ أعْبَدَ النَّاس»؛ أي: مِن أعبدهم؛ لأن المسلم مُطالَب باتَّقِاء المحارم، ومطالب كذلك بفعل الفرائض؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فافعلوا منه ما استطعتم»، ولأن الله تعالى يَغارُ إذا انتُهكت حرماته؛ في الصحيحين: «إن الله يغارُ، وغَيرةُ الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم الله عليه»، فقد عظَّم من شأن هذه الحرمات، وجعل اتِّقاءها واجتنابها خيرًا عظيمًا؛ قال تعالى:  {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}  [الحج: 30]؛

قال ابن كثير رحمه الله: "أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه، ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه،  {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}  [الحج: 30]؛ أي: فله على ذلك خير كثير، وثواب جزيل، فكما يجزيه على فِعْلِ الطاعات ثوابًا كثيرًا، وأجرًا جزيلًا، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات"، قال الحسن: "ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه"،

وقال عمر بن عبدالعزيز: "ليست التقوى قيامَ الليل وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداءُ ما افترض الله، وتَرْكُ ما حرَّم الله، فإن كان مع ذلك عملٌ فهو خير إلى خير"، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن التفاني في العبادة وفعل الطاعات لا ينفع صاحبه، إذا كان يعتدي على حرمات الله، فيستسهل المعاصي، ويركب المنكرات؛ فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «لَأعلَمَنَّ أقوامًا من أُمَّتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تِهامة بيضاء، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورًا»، قال ثوبان: يا رسول الله، صِفْهم لنا، جلِّهم لنا؛ ألَّا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: «أمَا إنهم إخوانكم، ومن جِلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خَلَوا بمحارم الله انتهكوها»، 

وابتُلي سيدنا يوسف عليه السلام بامرأة اجتمعت فيها جميع المغريات، حتى إنها غلقت الأبواب، وقالت:  {هَيْتَ لَكَ}  [يوسف: 23]، أو هِئْتُ لك؛ أي: تهيأت لك، ومع ذلك قال:  {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}  [يوسف: 23]، ثم تحمَّل سبع سنين من السجن على ألَّا يقع في المعصية؛ قال ابن الجوزي رحمه الله بعدما ذكر القصة: "هنا تكون العبودية لله".

 

«وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس»، كن قنوعًا بما وهب الله تعالى لك، ولا تنظر إلى ما في أيدي الناس، وانظر إلى من هو أقل منك مالًا وولدًا، ولا تحمل همَّ الرزق؛ فالله تعالى تكفَّل لك به، وخزائنه ملآى لا تنفَدُ، فلا تشغل بالك بما ضُمِن لك من الرزق.

والله والله أيمان مكـــــــــــــــررة   ***   ثلاثة عن يمن بعد ثانيهـــــــــــا 

لو أن في صخرة صماء ململمــــة   ***   في البحر راسية مُلْسٌ نواحيهـا 

رزقًا لعبدٍ يراه الله لانْفَلَقَــــــــــت   ***   حتى تؤدي إليه كل ما فيهـــــــا 

أو كان بين طباق السبع مسلكهـــا   ***   لسهَّل الله في المرقى مراقيهــا 

حتى ينال الذي في اللوح خُطَّ له   ***   فإن أتَتْهُ وإلا سوف يأتيهــــــــا 

 

فما دام الأجل باقيًا، كان الرزق آتيًا، ولا تحزن إذا صرف الله تعالى عنك الدنيا، ربما صرفها عنك لتنجو، وربما زوى عنك من متاع الدنيا حتى يسهل لك الحساب يوم القيامة، وربما لو أغناك لَبغَيتَ وتجبَّرتَ؛  {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}  [الشورى: 27]؛ قال ابن مسعود: "إن العبد لَيهُمُّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسَّرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير يقول: سبقني فلان، حسدني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل"، فإن من قنع بما قُسِمَ له، ولم يطمع فيما في أيدي الناس، استغنى عنهم؛ قال صلى الله عليه وسلم:  «ليس الغِنى عن كثرة العَرَضِ -والعَرَضُ هو ما يُنتفَع به من متاع الدنيا- ولكن الغِنى غِنى النفس»؛ (رواه البخاري ومسلم)، وقال صلوات الله تعالى عليه:  «قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه»؛ (رواه مسلم).

 

«وأحْسِنْ إلى جارك تكن مؤمنًا»، وعند البيهقي بسند صححه الألباني: ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل إذا عمِلت به دخلت الجنة؟ فقال: «كن محسنًا»، فقال: يا رسول الله، كيف أعلم أني محسن؟ قال: «سَلْ جيرانك، فإن قالوا إنك محسن، فأنت محسن، أو قالوا إنك مسيء، فأنت مسيء»، فخيرُ الناس منزلةً عند الله خيرهم لجاره، لقد وقف جبريلُ مُمسكًا بثياب النبي صلى الله عليه وسلم موصيًا إياه بالجار على اختلاف ديانته، حتى ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سيجعل للجار نصيبًا من الميراث، وعظَّم النبي حرمة الجار؛ في مسند الإمام أحمد بسند صححه الألباني عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:  «ما تقولون في الزنا» ؟ قالوا: حرَّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لَأن يزنيَ الرجل بعشرة نسوة أيسرُ عليه من أن يزني بامرأة جاره»، قال: فقال: «ما تقولون في السرقة» ؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسرُ عليه من أن يسرق من جاره»، إن أذى الجار يُحبِط الأعمال، ويمحو الحسنات؛ صحح الألباني أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:  «إن أذى الجار يمحو الحسنات، كما تمحو الشمسُ الجليدَ»، ومعنى ذلك أن الرجل إذا حصَّل كثيرًا من الحسنات، ثم أذى جاره، فقد حبِط عمله وفَنِيَت حسناته، كان أبو حنيفة يأتي بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي، ويدعو ويقرأ القرآن، لكن هذا الجار عزوبي ليس عنده إلا طبل يضرب عليه ويرقص، فكان أبو حنيفة لا يستطيع أن ينام، ولا يستطيع أن يقرأ، ولا أن يصلي، فيصبر ويحتسب، وفي ليلة من الليالي الطويلة ما سمع أبو حنيفة الصوتَ، انتظر، هل يسمع صوتًا؟ ما سمع الرقص، ولا سمع ضرب الطبل، ولا سمع الدربكة، فعجب، طرق باب الدار فما أجابه أحد، سأل الجيران: أين فلان؟ قالوا: أخذته شرطة السلطان، قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبرونني، ثم ذهب في الليل فركب بغلته، ولبس ثيابه، فاستأذن على السلطان وسط الليل، قال الجنود للسلطان: أبو حنيفة إمام الدنيا يريد مقابلتك، فقام السلطان من نومه والتقى به عند الباب يعانقه، قال له: يا أبا حنيفة، لماذا ما أرسلت إلينا؟ نحن نأتيك لا أن تأتينا، قال: كيف أخذتم جاري وما أخبرتموني به؟ قالوا: إنه فعل وفعل وفعل، قال: ردُّوا عليَّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة، وأخذ جاره يبكي، قال أبو حنيفة: ما لك؟ قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات، وما تركتك تنام، ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني ليلة أتيتَ تتشفع فيَّ، أُشْهِد الله ثم أُشهدك أنني تائب إلى الله.

 

في شعب الإيمان بسند صحيح عن أبي هريرة، قال: ((قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل، وتصدَّق، وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير فيها، هي من أهل النار»، قيل: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بالأثوار من الأقِطِ - اللبن المجفف - ولا تؤذي أحدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي من أهل الجنة»، وفي مسند أحمد بسند صححه الألباني:  «إن ممن يحبهم الله عز وجل رجلًا كان له جار سوء يؤذيه، فصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت».

 

 

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا»، فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ جاء ضيف إلى النبي فقال:  «من يضيِّف هذا الليلةَ رحمه الله» ؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء، قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلِّليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأرِيه أنَّا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تُطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجِب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة؛ فنزلت هذه الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]؛ قال ابن كثير: "أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك".

 

((ولا تُكْثِر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب))، في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:  «يا أمة محمدٍ، والله لو تعلمون ما أعلم، لَبَكَيتم كثيرًا، ولضحكتم قليلًا»، قال ابن عباس: "من أذنب ذنبًا وهو يضحك، دخل النار وهو يبكي"، ومرَّ الحسن البصري بشاب وهو مستغرق في ضحكه، وهو جالس مع قوم في مجلس، فقال له الحسن: يا فتى، هل مررت بالصراط؟ قال: لا، قال: فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال: لا، قال: فما هذا الضحك؟ فما رُؤيَ الفتى بعدها ضاحكًا.

 

هذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وسلم.