كيف تنتصر على القلق؟

منذ 2024-05-22

جاء الإسلام ليعلم كل فرد أن الرزق بيد الله، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفيَ رزقها، وأن هذا العالم بقوته وقدرته وأسلحته لن يستطيع أن يسلبك شيئًا من رزقك، ولو كان شيئًا يسيرًا

أيها المسلمون عبــــاد الله: يقول الله سبحانه وتعالى:  {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]؛ أي: إن الإنسان فيها دائم التعب والكَدِّ، وقد قرَّر سبحانه وتعالى حقيقة الكد والتعب في هذه الحياة، وخاطب آدم عليه السلام في بدايات خلق هذه الإنسان محذرًا ومنبِّهًا:  {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]، فالتعب والشقاء، والحَيرةُ والقلق، والهم والغم والحزن، ومكابدة النفس، والصبر على تقلُّباتها وأحداثها هناك في الدنيا، أما في الجنة:  {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118، 119]، ومع ذلك فقد بيَّن الله لهذا الإنسان طريقَ السعادة والراحة مع هذا الكَبَد والظروف المتغيرة، والأحوال المتبدِّلة؛ قال تعالى:  {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]،

وهناك ثلاثة أسباب للانتصار على القلق، ودفع الهموم والمخاوف والأحزان من حياتك أيها الإنسان؛ أولها: نسيان الماضي بأن يُغلق على مِلفَّات الماضي في زنزانة الإهمال والإغفال، فلا يفتحها أبدًا، ولا يقرؤها مطلقًا، ولا يتذكر أي مصيبة أو مأساة أو كارثة مرَّت به، وكأنه وُلِدَ اليوم، فليس له علاقة بالأمسِ الذاهب، الذي مات وكُفِّن؛ لأنَّ تذكُّرَ الماضي حمقٌ وجنون، ولا يمكن أن يُصلِحه دمع أو عويل أو تحسُّرٌ وأسَف، فلماذا إعادة عقارب ساعات الزمن، وإخراج الأموات من قبورهم، ونشر النشارة، وطحن الطحين؟ وهذا ما يفعله من يستجِرُّ ويتذكر أحداث الماضي، كم في حياتنا من مشاكلَ ومنعطفات وابتلاءات ذهبت وانتهت!

 

عبـــاد الله: وأما السبب الثاني، فهو تَرْكُ المستقبل حتى يأتي بحيث لا تشغل ذهنك بالأيام القادمة؛ فقد لا تصل إليها أصلًا، وفي المثل الياباني: (لا تعبر جسرًا حتى تأتيه)، وهذا صحيح، فقد لا تصل إلى الجسر أصلًا، وقد ينهار قبل أن تصل إليه وقد تعبره سالمًا، والاشتغال بالمستقبل وترك الحاضر معناه ضياع الفرصة الوقتية الحاضرة في العمل والإنتاج، وليس معنى هذا الكلام عدم الاستعداد للمستقبل؛ لأن الناجح في يومه هو المستعدُّ حقيقة لمستقبله، وأما ثالث هذه الأسباب، فهو أن تعيش في حدود يومك، فتعتقد اعتقادًا جازمًا أنك لن تعيش إلا هذا اليوم، وأن حياتك يوم واحد فقط، فتُخطِّطَ لهذا اليوم، وتعمل له، وتملأه نجاحًا وفلاحًا وصلاحًا، وتَجْتَثَّ من نفسك شجرة الشر، وتستلَّ من قلبك عقارب السموم والهموم والأحزان، وتحرص على الاستفادة من كل دقيقة في هذا اليوم الذي هو ملكك فقط؛ لأن الماضي ذهب إلى غير رجعة، والمستقبل في عالم الغيب، وهو غير مضمون؛ كما قال الشاعر:

ما مضى فات والمؤمَّلُ غَيبٌ   ***   ولك الساعة التي أنت فيها 

 

 

 

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:  «كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»؛ (البخاري في كتاب الرقاق (6416))، وكان مما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذكار أن نقول في الصباح عندما نستيقظ من النوم:  «أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم: فتحه، ونصره، ونوره، وبركته، وهُداه، وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده»؛ (أبو داود 4/ 322، وحسَّن إسناده شعيب وعبدالقادر الأرنؤوط في تحقيق زاد المعاد 2/ 273)، إنَّ عُمْرَ الإنسان منا يُسرق عندما يَذْهَل عن يومه في ارتقاب غَدِهِ، ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله، ويده صفرٌ من أي خير، كتب ستيفن ليكوك يقول: "ما أعجب الحياة! يقول الطفل: عندما أشبُّ فأصبح غلامًا، ويقول الغلام: عندما أترعرع فأصبح شابًّا، ويقول الشاب: عندما أتزوج، فإذا تزوج قال: عندما أصبح رجلًا متفرغًا، فإذا جاءته الشيخوخة تطلَّع إلى المرحلة التي قطعها من عمره، فإذا هي تلح كأن ريحًا باردة اكتسحتها اكتساحًا"، إننا نتعلم بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة في أن نحياها، نحيا كل يوم منها وكل ساعة في هؤلاء الذين ضيَّعوا أعمارهم سُدًى، وتركوا الأيام تُفلت من بين أيديهم؛ يقول تعالى:  {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55].

 

أيها المسلمون، لقد كانت توجيهات الإسلام للإنسان أن يعيش يومه، ويقوم بما عليه من واجبات وتكاليف؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «من أصبح منكم آمِنًا في سِرْبِهِ، معافًى في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا»؛ (رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم: 300)، والمعنى: فكأنما أُعطِيَ الدنيا بأسرها؛ (تحفة الأحوذي (7/11)).

 

سُئل حاتم الأصم: عَلَامَ بَنيتَ أمرك؟ أي: كيف بنيت حياتك وما سبب سعادتك واطمئنانك؟ قال: "على أربع خِصالٍ: عَلِمتُ أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله عز وجل حيث كنت، فأنا أستحي منه"، وكان الحسن البصري يقول: "يا بن آدم، لا تحمِّل يومك همَّ سنة قادمة".

 

إن هذا اليوم الذي نعيش فيه نحمله قضية فوات الرزق، وقضية الخوف من المستقبل المجهول، وقضية نزول الأجل، وحلول الفقر والأوبئة والأمراض والحروب، وتسلط العدو، وغيرها من الشرور، فجاء الإسلام ليعلم كل فرد أن الرزق بيد الله، وأنه لن تموت نفس حتى تستوفيَ رزقها، وأن هذا العالم بقوته وقدرته وأسلحته لن يستطيع أن يسلبك شيئًا من رزقك، ولو كان شيئًا يسيرًا؛ قال تعالى:  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، وقال تعالى:  {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:  «إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجْمِلوا في الطلب»؛ (السلسلة (2866))، وقال صلى الله عليه وسلم:  «لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرُب من الموت، لَأَدْرَكَهُ رزقه كما يدركه الموت»؛ (حسنه الألباني (950))، إن رزقك - يا عبدَالله - كُتِبَ لك وأنت في بطن أمك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «إن أحدكم يُجمَع خَلْقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه مَلَكًا، ويُؤمَر بأربع كلمات، ويُقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح»؛ (رواه البخاري ومسلم)، فَثِقْ بالله وتوكل عليه، وابذل من الأسباب ما استطعت، عندها سوف تكون قويًّا أمام مُنغِّصات الحياة، قادرًا على تجاوزها بطِيبِ نفسٍ، وراحة بال، اللهم املأ قلوبنا بالإيمان والراحة، والطمأنينة والأمان، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.

 

عبـــــــــاد الله: وأما الخوف من المجهول ومن المستقبل ومن الأيام القادمة، هذا الأمر الذي أرَّق الناس، وجلب لهم القلق والهم، فإن الإيمان عقيدة تنفُث في رُوعِ المسلم وخَلَدِهِ أن كل شيء في هذا الكون بيد الله، وأنه لن يحدث أمرٌ من خير أو شر إلا بقدر الله، وأن ما قدَّره الله وقضاه واقع لا محالة؛ قال الله تعالى:  {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23]؛ يقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: كنتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال:  «يا غلامُ، إني أعلِّمك كلماتٍ: احفظِ الله يحفظْكَ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام، وجَفَّت الصحف»؛ (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)، ومن آمَنَ بقَدَرِ الله وقدرته ومشيئته، وأدرك عجزه، وحاجته إلى خالقه تعالى، فهو يصدُق في توكله على ربه، ويأخذ بالأسباب التي خلقها الله، ويطلب من ربه العون والسداد.

 

أيها المسلم: كُنْ مع الله يكُنْ معك، وتوكَّل عليه وأحْسِنِ الظن به، وتذكر أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الآخرة خير لك من الأولى، فلا تبتئس ولا تحزن، ولا تخَف ولا تقلق؛ فمُدبِّر الكون أرحم بعباده من أنفسهم سبحانه، واعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بـــــــدأ فيه بنفسه، وثنَّـــى بملائكته المسبِّحة بقُدْسِهِ، وثلَّـــث بكم - أيها المؤمنون - من جِنِّه وإنسِه؛ فقال قولًا كريمًا:  {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. 

اللهم إنا نعوذ بك من جَهدِ البلاء، ودَرْكِ الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والإيمان في القلوب يا رب العباد، اللهم أحْيِنا مسلمين، وتوفَّنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح ذات بيننا، وادفع عنا الأوبئة والأمراض، وشر الأشرار، وكيد الفُجَّار، وشر طوارق الليل والنهار، والحمد لله رب العالمين.

____________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري