محطات ومنعطفات
أما خنفس باشا فيسجل التاريخ له موقفا عجيبا في الخيانة، فقد وضع مصابيح في الطريق كي ينير الطريق لعسكر الإنجليز.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الخيانة وأحقر الناس
سألوا هتلر: من أحقر الناس في حياتك؟ قال: الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم
** المعلم "يعقوب حنا" وقصة التعاون مع المحتل تجعلنا نقلب صفحات التاريخ ونتوقف مع أشهر متعاون مع محتل في بلاد المسلمين وهو (المعلم يعقوب حنا) الذي اشتهر بتعاونه مع المحتل الفرنسي لمصر عام 1798م، وشاركه في التعاون كما ذكر المؤرخ الجبرتي: ملطي وجرجس الجوهري وأنطوان الملقب بأبي طاقية، وبرتيلمي الملقب بفرط الرومان ونصر الله النصراني ترجمان، قائمقام بلياز، وميخائيل الصباغ.
ورغم أن شيوخ الأزهر كلهم كانوا قادة الثورة ضد الاحتلال حتى غادر مصر، إلا أن الجبرتي ذكر تعاونا شاذا من شيخين؛ هما خليل البكري الذي عينه نابليون نقيبا للأشراف والشيخ محمد المهدي الذي عينه نابليون أمين سر الديوان، ولكن كانت نهايتهما مخزية.
نعود إلى أشهر متعاون (المعلم يعقوب)، والذي عرض خدماته على الفرنسيين، وكان مخلصاً في تعاونه معهم فقام بتشكيل الفيلق القبطي لمعاونة المحتل، مما جعل نابليون يجعله يرافق الجنرال ديسيه في حملته على الصعيد لقتال المصريين، وتقديراً لحسن بلائه في المعارك تم منحه سيفاً تذكاريّاً منقوشاً عليه (معركة عين القوصية- 24 كانون الأول/ ديسمبر 1798م)
وبعد تولية الجنرال كليبر، شارك المعلم يعقوب حنا في قمع الثورة بكل وحشية وقسوة ومعه الفيلق القبطي، لذلك منح الجنرال كليبر "المعلم يعقوب" رتبة كولونيل.
وقد ظل المعلم يعقوب في عهد الجنرال مينو يتفانى هو وأعوانه في التعاون مع المحتل؛ على حساب الوطن وأمن المصريين وسلامتهم وحرياتهم وكرامتهم وحرمة بيوتهم وأموالهم.
وقد منح مينو يعقوب حنا رتبة الجنرال. (ويذكر الجبرتي رجلاً مسلماً تعاون مع المحتل ويعقوب حنا يُدعى مصطفى الطاراتي، وبعد جلاء المحتل تم القبض عليه وإعدامه في ميدان باب الشعرية)
وعند جلاء المحتل الفرنسي تم توقيع اتفاقية مع العثمانيين تضمنت مادتين مهمتين تتعلقان بوضع عملاء الفرنسيين ومعاونيهم:
1/ كل من أراد من أهل مصر أيّاً كان دينه أن يصحب الفرنسيين في عودتهم إلى فرنسا، فله ذلك.
2/ كل من التحق بخدمة الفرنسيين لا يكون قلقاً على حياته أو ممتلكاته.
وأصدر الأمير المملوكي (إبراهيم بك) أماناً لأكابر القبط. ويذكر الجبرتي أنه بعد مرور شهر من توقيع اتفاقية الجلاء عن القاهرة "نُودي بأن لا أحد يتعرض بالأذية لنصراني ولا يهودي، سواء كان قبطيّاً أو روميّاً أو شاميّاً؛ فإنهم من رعايا السلطان، والماضي لا يعاد".
ولكن المتعاونين قرروا الرحيل مع المحتل إلى فرنسا، وعلى رأس هؤلاء المعلم يعقوب. وأبحرت السفينة الفرنسية "بالاس" تحمل على متنها خونة الوطن، وبعد إبحارها بيومين نزل العقاب الرباني بالخائن يعقوب، حيث أصيب بحمى شديدة ومات في عرض البحر بعد أربعة أيام. وظلت جثته على ظهر السفينة وقيل إنه تم إلقاؤها في البحر، وقيل وُضعت في برميل خمر حتى مرسيليا حيث دفن هناك.
** خنفس باشا
كان الجنرال أحمد عرابي - الفلاح الشرقاوي الذي يتطلع إلى حرية واستقلال مصر- مملوءا بالحماسة واثقا من النصر، فأسرع بقواته إلى كفر الدوار لمواجهة الإنجليز بعد احتلالهم الإسكندرية في تموز/ يوليو 1882
ولكن مع حماسة عرابي كانت الخيانة مختبئة له، فقد أرسل عرابي إلى ديليسبس لمنع مرور الإنجليز من القناة، ولكن ديليسبس طمأنه إلى الشرعية الدولية وحياد القناة وأنه لن يسمح، ولكنه تآمر مع الإنجليز وسمح لسفنهم بالعبور كي تتوجه لحرب عرابي، واستعان الإنجليز بـ "المواطنين الشرفاء" من البدو في الصحراء لإرشادهم.
كانت الخيانة تتحرك في تموز/ يوليو 1882بكل قوة، وكان عرابي مطمئنا بأن الجيش مع الشرعية، ولكن (خنفس باشا) كان يدير مؤامرة انقلاب مع الضباط: سعود الطحاوي وعبد الرحمن حسن وغيرهم، وعمل كل طرف في الانقلاب بسرعة في مهمته.
فقد ذهب الضابط سعود الطحاوي إلى عرابي في خيمته يطمئنه، ويقسم له أنه لا انقلاب وأنه معه للحفاظ على شرعية الاستقلال لمصر، وأن الإنجليز لن يهجموا قبل أسبوع على الأقل. ثم يتسلل الطحاوي بخفة الثعبان إلى صفوف الإنجليز ليرشد طلائعهم في صباح اليوم التالي إلى كيفية تدمير اعتصام أحمد عرابي.
أما عبد الرحمن حسن فقد كان قائد فرقة السواري في الحرس الجمهوري، وكان على اتصال دائم بالإنجليز، فتحرك بجنوده تحت جنح الليل بعيدا عن أرض المعركة ليمر الجيش الإنجليزي في سلام.
أما خنفس باشا فيسجل التاريخ له موقفا عجيبا في الخيانة، فقد وضع مصابيح في الطريق كي ينير الطريق لعسكر الإنجليز.
كل ذلك جعل القائد الإنجليزي الجنرال ويلسي يطمئن إلى أن المصريين المعتصمين مع عرابي سينامون ليلتهم نوما هنيئا بدون أي شكوك، بعد أن قام الخونة بدورهم في طمأنة المعتصمين.
ويطفئ جيش الاحتلال أنواره للتضليل ويخيم الظلام الدامس، ويزحف 11 ألفا من المشاة وألفين من الفرسان وستون مدفعا.
ولك أن تتخيل المشهد أن الضابط سعود الطحاوي المصري في المقدمة يرشدهم إلى الطريق، ولم يكن يؤدي هذه المهمة وحده، بل كان يعاونه بعض العسكر من المصريين الذين خانوا واجبهم وتحالفوا مع الشيطان مقابل حفنة من الجنيهات الذهبية والوعد من القوة الدولية بالحماية.
اكتملت المؤامرة بينما أحمد عرابي مطمئن في خيمته يقرأ الأوراد والأدعية، مطمئنا ﻹخلاصه في دفاعه عن مصر، مدعوما بالوطنيين وفتاوى العلماء؛ لأنه يدرك أنه يوجد خطر على مصر وهو لن يترك بلده يُحتل من الإنجليز، فجمع الجنود المتطوعين المتحمسين للحفاظ على استقلال بلاده وحريته، وتجمعوا في اعتصام التل الكبير على امتداد ستة كيلومترات، وانتشروا داخل الخنادق وأقاموا الاستحكامات المقامة من الرمل والطين. وكان منهم من يحمل سلاحا وكثيرون لا يحملون شيئا.
وفي فجر يوم 13 أيلول/ سبتمبر انطلق ستون مدفعا و11 ألف بندقية وألفان من الحراب؛ تقذف الهول والموت والفزع في الجند النائمين الذين قاموا على صرخة واحدة لا يعرفون أهي القيامة أم بركان انشقت عنه الأرض، أم الإنجليز.
تفرق المصريون يبحثون عن مهرب، فلا أحد كان يتوقع الخيانة. ووقتها لم يتم تصوير المشهد، لكن بعد 130عاما كان المشهد يبث مباشر والعالم يشاهد ويتفرج.
كان عرابي لا يزال بخيمته يصلي الفجر على ربوة قريبة حين باغته الهجوم وسقطت قذيفة مباشرة على خيمته، فتركها للنيران.
وهنا روايتان في التاريخ؛ الأولى أنه قبض عليه الإنجليز وهو يشرع في ارتداء حذائه، الثانية أنه استجمع شجاعته وأسرع وامتطى جواده ونزل في ساحة المعركة، فأذهله أن رأى جنوده يفرون، ووقف يحاول عبثا جمعهم. ولكن التيار كان جارفا، وقد ضاع صوته عن الثبات للاستقلال والحرية بين انفجارات القنابل وطلقات الرصاص.
إنه هول الخيانة والمفاجأة، وكادت المدافع تصيبه لولا أن خادمه لوى عنان فرسه قهرا عنه، فأنقذ حياته. وانطلق يعدو بجواده إلى بلبيس، ليحاول عبثا أن يقيم خطا ثانيا للدفاع عن القاهرة، ولكنه قُبض عليه.
غربت شمس ذلك اليوم خلف التلال.. كانت الدماء التي تخضب رمال الصحراء والميدان، تشكو إلى ربها مرارة الخيانة. وكانت الذئاب قد أقبلت تنهش الجثث التي ملأت الخنادق التي أقامها الفلاحون المصريون من الرمل والطين والدماء.
وجاء المصورون الإنجليز يلتقطون صورا تذكارية لجثث الفلاحين المصريين لنشرها في صحف لندن، للتباهي بالنصر الوضيع.
وخرج إعلام الشؤون المعنوية (صحيفة الأهرام) يزف خبر القضاء على الخائن عرابي هو وإخوانه!!!
أما أطراف الانقلاب الخونة الذين باعوا وطنهم فقد اختلفوا على "الرز"، حيث قد كتب خنفس إلى الإنجليز يتظلم لأنه أخذ ألفين فقط ولم يأخذ عشرة آلاف، مثل الليبرالي الكبير سلطان باشا، رئيس مجلس النواب المحكمة الدستورية للاحتلال.
ويبقى مشهد مهم في تلك المرحلة لرموز الحالة الإسلامية؛ ثلاثة شيوخ من الأزهر وهم الشيخ عليش والعدوي والخلفاوي، جهروا بكلمة الحق، وأعلنوا خيانة الخديوي توفيق لمساعدته الانجليز في ضياع سيادة مصر واحتلالها. ولكن تم اعتقالهم كعادة الظلم في مصر وتقديمهم للمحاكمة.
ورغم ما حدث من انقلاب وهزيمة عرابي وقتل المعتصمين معه وسيطرة الإنجليز والخونة، لكن الشيوخ الثلاثة لم يتراجعوا عن موقفهم وكلمة الحق، وسجلوا موقفا سجله التاريخ من نور في تلك الصفحة السوداء.
وتشكلت لهم محاكم هزلية من قضاة الاحتلال والظلم فسُجنوا، ومنهم من مات في سجنه صابرا محتسبا.
وتمت محاكمة عرابي ورفاقه لأنه كان شريفا دافع عن مصر ضد المحتل، وحكمت محكمة الانقلاب بالإعدام على عرابي، ثم تم تخفيفه بالنقض إلى النفي.
وانتهى المشهد كله على احتلال الإنجليز لمصر سبعين عاما، ولم يتركوها إلا بعد أن سلموها للطحاوي والأطرش وخنفس باشا الجدد، ليعيدوا وزملاؤهم وأتباعهم إنتاج الانقلاب ضد كل من يتحمس ويدافع عن مصر واستقلالها.
إن خيانة الوطن والتعاون مع المحتل فعل مستقبح في التاريخ البشري في كل الدول والأعراق والديانات. فأمريكا التي قامت بتسفير الخونة ترفض وتعاقب من يخونها ويتعاون مع عدوها أو صديقها ضدها.
وقد عاقبت أمريكا الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولارد بالسجن 30 عاما، وحتى فرنسا التي تعلن العدواة ضد طالبان تعاقب بشدة من يتعاون مع أعدائها، حتى إن وزارة الدفاع الفرنسية قدمت للمحاكمة في 2020 المتهمين الفرنسيين هنري م. وهو ضابط متقاعد، أما المتهم الثاني بيار- ماري (69 عاما)، فكان موظفا مدنيا في وزارة الدفاع، بتهمة التجسس لصالح الصين. رغم كل ذلك يشجعون خيانة الوطن والدين لمصلحتهم.
لذلك نجد في النظم القانونية العقوبات مشددة لمن يقومون بعملية التخابر والتجسس ضد وطنهم لصالح دولة أجنبية. وتتراوح العقوبة بين الإعدام والمؤبد كما في القانون المصري في جريمة التخابر (المادة 77ب، ج، د) والتجسس كما نصت المادة 80 عقوبات، والمادة 86، وكذلك في معظم القوانين الوضعية في العالم.
وفي التشريع الإسلامي كانت أيضا العقوبة مغلظة بالقتل. وحكم التعاون مع المحتل على تفصيل كبير في الفقه الإسلامي، لكن الشاهد خطورة جريمة التعاون مع العدو والعقوبة الشديدة.
عندما يخلو العرين من أسوده
المناصب الدينية الرسمية تمثل وصمة عار لأصحابها غير ما هو متعارف لدى الإعلام الرسمي الذي يصفق ويطبل لكل أتباعه ومواليه، وما هذا إلا أن تلك المناصب جزء من منظومة أنظمة سياسية فاسدة، وبالطبع فهذه الأنظمة لن تختار من يؤثر إرضاء الله تعالى على إرضاء العباد، بل تختار من يستحدث لها الفتاوى ويلوي أعناق النصوص ليبرر مثالبها ومظالمها.
إن هذه المناصب تنحصر مهمتها في إضفاء الصبغة الدينية والشرعية على كل معالم الظلم السياسي والاجتماعي … وغيره من كافة أشكال جور السلطان، ولذلك لا غرابة أن تجد مهابة هذه العمائم ضاعت من القلوب، بل تجد أن كل الدعاة الذين تقوم على أكتافهم الدعوة الإسلامية، وملكوا القلوب بحسن سريرتهم.. تجدهم أبعد الناس عن هذه المناصب، لأن هناك فرق كبير بين من يعمل للدنيا ومن يعمل للآخرة.
عن المجتمعات الفاشلة يقول تشيخوف:
في المجتمعات الفاشلة ثمة ألف أحمق مقابل كل عقل راجح، وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية، تظل الغالبية بلهاء على الدوام، ولها الغلبة دائماً على العاقل.
فإذا رأيت الموضوعات التافهة تعلو في أحد المجتمعات على الكلام الواعي، ويتصدر التافهون المشهد، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل جداً.
فمثلا أغاني وكلمات لا معنى لها ترى ملايين الناس يرقصون ويرددون هذه الكلمات وصاحب الأغنية يصبح مشهوراً، معروفاً ومحبوباً بل حتى الناس تأخذ رأيه بشان المجتمع والحياة.
أما الكُتاب والمؤلفين لا أحد يعرفهم ولا أحد يعطي قيمة أو وزناً لهم..فأكثر الناس تافهون ويحبون التفاهة والاخدار.
شخص يخدرنا لِيُغَيِّب عقولنا عَنَّا وشخص يُضحكنا بالتفاهات أفضل من شخص يوقذنا للواقع ويؤلمنا بالقول الحق.
غرق الحضارات
** هل كنت محقاً بالقول إن الظلمات انتشرت في العالم عندما خبت أنوار المشرق؟ أليس من المستغرب الحديث عن الظلمات ونحن نشهد أنا وأبناء عصري، أكثر تقدم تكنولوجي إبهاراً على الإطلاق؛ ولدينا في متناول أصابعنا، كما لم نشهد من ذي قبل، كل معارف البشر؛ والبشر أمثالنا يُعمرون زمناً طويلاً، ويتمتعون بصحة أوفر مما سبق وبلدان عديدة تنتمي إلى العالم الثالث القديم، بدءاً بالصين والهند، تنعتق من ربقة التخلف أخيراً؟
غير أن تلك هي على وجه التحديد المفارقة المحزنة لهذا القرن: فللمرة الأولى في التاريخ، لدينا الوسائل الكفيلة بإنقاذ الجنس البشري من جميع الويلات التي تجتاحه، للانتقال به بهدوء إلى عصر من الحرية، والتقدم الذي لا تشوبه شائبة، والتضامن الكوكبي والرخاء المشترك ومع ذلك نحن ننطلق بسرعة فائقة، في الاتجاه المعاكس.
** لست ممن يحلو لهم الاعتقاد أن الأمور كانت أفضل من قبل. فالاكتشافات العلمية تبهرني، وتحرر العقول والأجساد يبهجني، وإنني أعتبر أن العيش في عصر مبدع وجامج مثل عصرنا هو امتياز. غير أنني أراقب منذ بضع سنوات، انحرافات تبعث على القلق المتزايد، وتهدد بإفناء كل ما بناه جنسنا حتى الآن، كل ما نعتز به اعتزازا مشروعا، كل ما نعهد تسميته «حضارة».
** من الخطأ أن نضع بصورة منهجية المصالح على طرفي نقيض من المبادئ، فسمو الأخلاق من الحنكة، والخسة تصرف أخرق، وعالمنا الساخر يأنف أن يعترف بذلك، ولكن التاريخ يذخر بالأمثلة الدامغة، وفي غالب الأحيان عندما يخون بلد قيمه فإنه يخون كذلك مصالحه. قال تعالة: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]
** اليأس في عصرنا ينتشر ما وراء البحار، وما وراء الجدران، وما وراء الحدود الحقيقية أو الذهنية، وليس من السهل أن نضع حدا لتقدمه.
عواصف التغيير والحكم الإلهية في التدبير
عندما يأمر الله عباده المؤمنين في كل زمان ومكان بأن ينتظروا نصره وثأره من الطغاة الظالمين في قوله: {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [هود/١٢٢] فإن في ذلك تنبيه بأن: «انتظار الفرج عبادة» كما جاء في الأثر
وفيه تذكير بأن شأن المؤمنين الثبات على اليقين الذي نطق به سيد المرسلين عندما قال: (وَاعْلَمْ: أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً) [رواه الإمام أحمد وغيره]
وهذا فيه البشارة العظيمة للصابرين، وأن النصر مقارن للصبر، والبشارة العظيمة أيضاً بأن تفريج الكربات وإزالة الشدات مقرون بالكرب، فكلما كرب الإنسان لأمر فرج الله عنه. فينبغي للإنسان إذا أصابه العسر أن ينتظر اليسر، وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن فقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح/5-6]
فإذا عسرت بك الأمور فالتجئ إلى الله عز وجل منتظراً تيسيره مصدقاً بوعده.
قال عمر لأشياخ من بني عبس بم قاتلتم الناس قالوا بالصبر لم نلق قوما إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا.
وقال بعض السلف: كلنا يكره الموت وألم الجراح ولكن نتفاضل بالصبر
وقال ابن بطال: الشجاعة صبر ساعة.
وهذا في جهاد العدو الظاهر وهو جهاد الكفار، وكذلك جهاد العدو الباطن وهو جهاد النفس والهوى فإن جهادهما من أعظم الجهاد.
قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في وصيته لعمر حين استخلفه: إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك.
فهذا الجهاد يحتاج أيضا إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه وحصل له النصر والظفر وملك نفسه فصار ملكا عزيزا، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك غلب وقهر وأسر وصار عبدا ذليلا أسيرا في يد شيطانه وهواه. كما قيل: "إذا المرء لم يغلب هواه أقامه بمنزلة فيها العزيز ذليل"
قال ابن المبارك: من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع
فقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إن النصر مع الصبر) يشمل النصر في الجهادين جهاد العدو الظاهر وجهاد العدو الباطن فمن صبر فيهما نصر وظفر بعدوه.
وسنة الله في التفريج عن المؤمنين بوقوع الانتقام -على غير توقع- بجموع الظالمين؛ لا تنفي مراده عز وجل من أوليائه أن يتعبدوه بالتربص بأعدائه، والاستعداد للقائهم والانتصار عليهم، كما قال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة/52]
والمؤمنون ربما يفتقدون أسباب المخارج من النوازل، وقد يعجزون عن وسائل الأعمال التي تبنى عليها الآمال، مقارنة بما لدى الفجار من إمكانات المكر الكبار؛ ولذلك فسرعان ما يأتي الثأر والانتصار لهم على غير انتظار منهم، كما قال الله سبحانه: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [ النحل/ ٢٦]
وحتى الرسل تبتلى بالأعداء إلى الحد الذي قد يبتعد فيه الأمل والرجاء، لولا تدارك الرحمات الإلهية وفق هذه السنة الربانية؛ كما قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف/١١٠] وهي سنة جرت على الأولين من المؤمنين، كما هي جارية على من بعدهم إلى يوم الدين.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} ]البقرة/214]
وإذا كان البعض يتعجب من بعض ما سبق من الكلام؛ لكثرة وطول ما يرى من الأذى والابتلاء وشدة الإيلام؛ فإن الله يعجب من عجبهم لاستبعادهم الفرج من ربهم، قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَجِبَ رَبُّنا مِنْ قُنوطِ عِبادِه وقُرب غِيَرِهِ [أي تغييره] يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ؛ يَعْلَمُ أنَّ فرَجَكُمْ قَرِيبٌ) [رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح.
فاللهم فرجك القريب، يا سميع يا مجيب
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: