طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طُوبى لمَنْ هُدي إلى الإسلام، وكان عيشُه كفافًا وقنِع».
د. علي أحمد عبدالباقي
روى الإمام أحمد في "مسنده" (23944 - الرسالة)، والترمذي في جامعه (2349)، وابن حبان في "صحيحه" (705) من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: حدثنا حيوة بن شريح، قال: أخبرني أبو هانئ الخولاني؛ أن أبا عليٍّ عمرو بن مالك الجنبي أخبره؛ أنه سمع فضالة بن عبيد؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ««طُوبى لمَنْ هُدي إلى الإسلام، وكان عيشُه كفافًا وقنِع»» . قال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وقال الحاكم في "المستدرك" (4/ 35): " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في "الصحيحة" (1506): "الصواب أنَّه صحيح فقط.. فإنَّ عمرو بن مالك لم يخرج له مسلم شيئًا".
وأبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المكي المقرئ ثقة فاضل، وفاته سنة 213هـ، روى له الجماعة.
وحيوة بن شريح بن صفوان بن مالك التجيبى، أبو زرعة المصري، فقيه مصر وزاهدها ومحدِّثها، وفاته 158هـ.
وأبو هانئ: هو حميد بن هانئ الخولاني المصري، أكبر شيوخ عبد الله بن وهب؛ قال الحافظ ابن حجر: "لا بأس به"، مات سنة 142هـ.
وأبو علي: هو عمرو بن مالك الجنبي: بفتح الجيم وسكون النون بعدها موحدة، مصري ثقة وفاته سنة 103هـ.
وفضالة بن عبيد الأنصاري صحابي من الأوس، شهد أحدًا، أقام بدمشق وولي قضاءها، وكانت وفاته سنة 57هـ.
وهذا الحديث رواه الحاكم في المستدرك أيضًا (4/ 122)، والطبراني في "الكبير" (18/ رقم 787)، والقضاعي في "الشهاب" (617) من طريق عبد الله بن وهب المصري عن أبي هانئ حميد بن هانئ الخولاني به.
وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "وهو كما قالا".
ورواه النسائي في "السنن الكبير" – كما في "تحفة الأشراف" (11033) - عن سويد بن نصر، عن أبي هانئ، به.
ويشهد لهذا الحديث ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" (1054) من حديث عبد الله بن عمرو؛ قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب: حدثني شرحبيل - وهو ابن شريك - عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه».
معاني المفردات:
• "طوبى": دعاء بالفلاح والسعادة، قال الشيخ ابن عثيمين في "شرح الرياض" (6/ 313): "يعني الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة"، ويدل عليه ما ورد في لفظ حديث عبد الله بن عمرو: « قد أفلح من أسلم ...»؛ رواه مسلم.
وقد ورد في معناها عدَّة أقول أخرى، والأنسب ما تقدم.
• " كفافًا ": الكفاف: ما يكُفُّ عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يُلحق بأهل الترفُّهات"؛ قاله أبو العباس القرطبي في "المفهم شرح تلخيص مسلم".
• "وقَنِعَ": قال الشيخ رشيد رضا: " القناعة ضد الطمع؛ فهي عبارة عن رضاء الإنسان بما يصيبه من الرزق قلَّ أو كثر، وعدم طمعه فيما ليس له واستشرافه لما في أيدي الناس، هذا هو التحقيق، واقتصر بعض العلماء في "تفسيره" على الاجتزاء باليسير من أعراض الدنيا؛ لأن من رضي بالقليل كان بالكثير أرضى، وقد يكون الاقتصاد في المعيشة سببًا للقناعة، بل قال أبو حامد الغزالي في "الإحياء": الاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة، ونعني به الرفق في الإنفاق، وترك الخرق فيه اهـ[1].
ومعنى الحديث أنَّ من رزقه الله من الدنيا ما يكفيه، ويغنيه عن سؤال الناس والتطلع لما في أيديهم، ورزقه مع ذلك الرضا والقناعة فكأنَّما حيزت له الدنيا؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لنفسه ولآل بيته، فقال – كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه -: «اللهم، اجعلْ رزقَ آل محمدٍ قوتًا»؛ متَّفقٌ عليه.
يستفاد من الحديث:
• الترغيب في القناعة بما أوتيت من الدنيا مع الإسلام والسنة.
• فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك، رغبة في توفير نعيم الآخرة، وإيثارًا لما يبقى على ما يفنى، فينبغي للأمة أن تقتدي به صلى الله عليه وسلم في ذلك.
• في الحديث فضل الكفاف والقناعة به (الصحيحة 2/ 202)، وفيه حديث أبي هريرة مرفوعًا: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا»، متفق عليه.
قال الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (1/ 254):
«فيه - وفي الذي قبله - دليل على فضل الكفاف، وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك، رغبة في توفر نعيم الآخرة، وإيثارًا لما يبقى على ما يفنى، فينبغي للأمة أن تقتدي به صلى الله عليه وسلم في ذلك. وقال القرطبي: معنى الحديث أنه طَلَب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعًا. كذا في "فتح الباري" (11 / 251 - 252).
قلت [الألباني]: ومما لا ريب فيه أن الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال، فينبغي للعاقل أن يحرص على تحقيق الوضع الوسط المناسب له، بحيث لا ترهقه الفاقة، ولا يسعى وراء الفضول الذي يوصله إلي التبسط والترفه، فإنه في هذه الحال قلما يسلم من عواقب جمع المال، لاسيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه مفاتنه، وتيسرت على الأغنياء سبله. أعاذنا الله تعالى من ذلك، ورزقنا الكفاف من العيش». ا.هـ.
[1] مجلة المنار، مجلة المنار، عدد جمادى الآخرة 1350هـ / أكتوبر 1931م (مج 32 / ص 24).
- التصنيف:
- المصدر: