رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم)

منذ 2024-06-26

إن الرحمة فضيلة إسلاميَّة تدل على قوة صاحبها ونُبله، وتقديره لمشاعر الآخرين، ومعاونتهم والتخفيف عنهم، ولِين الجانب لهم، وقد بلَغ منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدرجة القُصوى

إن الرحمة فضيلة إسلاميَّة تدل على قوة صاحبها ونُبله، وتقديره لمشاعر الآخرين، ومعاونتهم والتخفيف عنهم، ولِين الجانب لهم، وقد بلَغ منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدرجة القُصوى، فكان - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا بالكبير والصغير، بالرجال والنساء، حتى بالحيوانات والطيور، وبكل ما يحيط به، وصدق الله العلي العظيم إذ يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال - سبحانه -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، إلى غير ذلك من الآيات التي تُثبت صفة الرحمة في أرْوَع صُوَرها وأعلاها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

وجاءت السنة النبوية مؤكِّدة هذا المعنى بالأدلة والشواهد التي تدلُّ على أن رحمته - صلى الله عليه وسلم - اتَّسعت حتى شمِلت جوانب عديدة، ومن تلك الأمثلة:

ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بن علي وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «مَن لا يَرحم، لا يُرحم»[1].


وما ورَد عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تُقَبِّلون الصِّبيان؟ فما نُقبِّلهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أوَأمْلِك لك أن نزَع الله من قلبك الرحمة» ؟!))[2].


وذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الرحمة صفة من صفات الله تعالى، وأنه على الناس أن يتراحَموا فيما بينهم:

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسَك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحَم الخَلقُ، حتى تَرفَع الفرس حافرَها عن ولدها؛ خشية أن تُصيبه»[3].

 

ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه أنه كان يتعهَّدهم بالموعظة؛ فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا"[4].

 

أي: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعِظ الصحابة في حين بعد حينٍ، لا في كل حين.

 

وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا»[5].

 

وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما خُيِّر بين أمرين قط، إلا أخَذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعدَ الناس منه، وما انتقَم - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيءٍ قط، إلا أن تُنتهك حُرمة الله، فينتَقم بها لله"[6].

 

أي: كان - صلى الله عليه وسلم - يتلقَّى الناس بوجهٍ بَشوش، ويُباسطهم بما لا يُنكره الشرع، أو يُرتكَب فيه الإثم.

 

وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الأُمة أخلاقًا، وأبسطهم وجهًا؛ لذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يُلاطف أصحابه بطلاقة الوجه والمُزاح، ويتواضع معهم، ويَزورهم، ويُداعب صغارهم؛ فهذا أنس - رضي الله عنه - كان له أخٌ صغير، كان له طائر صغير، فمات الطائر، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُلاطفه كلما رآه بقوله: «يا أبا عُمَير، ما فعَل النُّغَير» ؟[7].

 

• ومِن صُوَر رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالخَدم: ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: خدَمت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي: أُفٍّ، ولا: لِمَ تَصنع؟ ولا: ألاَ صَنعت"[8].

 

• ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأنس - رضي الله عنه - أنه كان يناديه قائلاً: «يا بني»؛ أي: إنك عندي بمنزلة ولدي في الشفقة[9].

 

ومما يؤكد هذا المعنى: ما ورَد في الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما ضرَب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيء قطُّ، فينتَقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيءٌ من محارم الله - عز وجل - فينتَقم لله"[10].


• وتبلغ الرحمة أيضًا مَداها، فيُنكر على مَن يدعو قائلاً: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا تَرحم معنا أحدًا؛ كما ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهمَّ ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: «لقد حجَّرت واسعًا»[11].


فرحمة الله - عز وجل - واسعة وَسِعت كلَّ شيء.

 

ولم تَقتصر رحمته - صلى الله عليه وسلم - على البشر، بل امتدَّت لتشمل الحيوانات والطيور، وكل ذات كبدٍ رَطْبة.

 

فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يمشي بطريقٍ، اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرِب ثم خرج، فإذا كلب يَلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلَغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلَغ بي، فنزل البئر، فملأ خُفَّه، ثم أمسكه بفِيه، فسقى الكلب، فشكَر الله له، فغفَر له»، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟! فقال - صلى الله عليه وسلم -: «في كل ذات كبدٍ رَطْبة أجْر»[12].

 

وأخبر أن امرأة دخلَت النار في هِرَّة حبسَتها، فلم تُطعمها، ولم تَدَعها تأكل من خَشاش الأرض[13].

 

ونهى - صلى الله عليه وسلم - مَن همُّوا بإحراق قرية النمل، وأنكر على من أخَذ أفراخ الطيور من أُمهاتها، وأمرهم بردِّها إليها، فقد ثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فانطلَق لحاجته، فرأينا حُمَّرة - طائر صغير كالعصفور أحمر اللون - معه فرخان، فأخذنا فَرْخَيها، فجاءت الحُمَّرة، فجعلت تَفرُش، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مَن فجَّع هذه بولدها؟! ردُّوا إليها ولدها»، ورأى قرية نمل قد حرَّقناها، فقال: «مَن حرَّق هذه» ؟، قلنا: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يُعذِّب بالنار إلا ربُّ النار»[14].

 

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بأن مَن لا يَرحم لا يُرحم، وأن الرحمة لا تُنزع إلا من شقي، وبشَّر - صلى الله عليه وسلم - الراحمين بالرحمة من الله تعالى.

 

فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يَرحم الله - عز وجل - من عباده الرحماء»[15].

 

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الرحم شِجْنَة، فمَن وصَلها وصَلتُه، ومن قطَعها قطَعتُه» [16].

 

إلى غير ذلك مما لا يتَّسع المجال هنا لاستقصائه، فصلى الله وسلَّم على نبي الرحمة والهدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 


[1] رواه البخاري 5997، مسلم 2318.

[2] رواه البخاري 5998، مسلم 2317.

[3] رواه البخاري 6000، مسلم 2752.

[4] رواه البخاري 68، مسلم 2821.

[5] رواه البخاري 69، مسلم 1734.

[6] رواه البخاري 3560، مسلم 2327.

[7] رواه البخاري 6129، مسلم 2150.

[8] رواه البخاري 6038 مسلم 2309.

[9] رواه مسلم 2151 عن أنس - رضي الله عنه.

[10] رواه مسلم 2328.

[11] رواه البخاري 6010

[12] رواه البخاري 2363 ، مسلم 2244.

[13] رواه البخاري 3318، مسلم 2242، عن ابن عمر - رضي الله عنهما.

[14] رواه أبو داود (2675- 5268) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وصححه الألباني في الصحيحة 25.

[15] رواه البخاري 1284، مسلم 923 عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه.

[16] رواه البخاري 5989، مسلم 2555 عن عائشة - رضي الله عنها.

____________________________________________

الكاتب: د. محمد بن عبدالسلام