صنائع المعروف

منذ 2024-06-27

قال صلى الله عليه وسلم: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ»، وإن دروب الخير كثيرةٌ، وحوائجُ الناس متنوعة: إطعامُ جائع، وكِسوةُ عارٍ، وعيادةُ مريض، وتعليمُ جاهل، وإنظارُ معسر، وإعانةُ عاجز، وإسعافُ منقطع.

أيها المؤمنون، إن أعباءَ الدنيا جسام، والمتاعب تنزل بالناس من اليتامى والأرامل والغرباء والضعفاء والمعسرين، والإنسان بمفرده أضعف من أن يصمد طويلًا تجاه هذه الشدائد، ولئن صمد فإنه يبذل من الجهد ويُقاسي من المعاناة ما كان في غنًى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه، وهرعوا لنجدته، وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليلٌ ضعيف بنفسه، كثيرٌ قوي بإخوانه.

 

ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يتألم لألمه، ويحزن لحزنه، ويعينه على دفع كربته، أما موت العاطفة وقلَّة الاكتراث وكأن الأمر لا يعنيه فهو تنكُّر لهذه الأخوة، فضلًا عن أنه جفاء في الخلق وجمود في الطبع.

 

والتألم الحق هو الذي يدفعك إلى كشف ضوائق إخوانك، فلا تهدأ حتى تزول الغمة وتنكشف الظلمة، «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ»؛ (متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما).

 

عباد الله، إن من رحمة الله حين خلق المعروف أن خلق له أهلًا فحبَّبه إليهم، وحبَّب إليهم إسداءه، ووجَّهَهم إليه كما وجَّه الماء إلى الأرض الميتة، فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيرًا جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلُّق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصَّر وملَّ وتبرَّم فقد عرَّضها للزوال، ثم انصرفت وجوه الناس عنه.

 

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ»، وفي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ».

 

فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا، وأحب الخَلْق إلى الله أنفعهم لعباده، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، والجزاء من جنس العمل، فكما تعامل الخَلْقَ في الدنيا يعاملك الخالق سبحانه في الآخرة، فاختر لنفسك.

 

ولما سئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إلى الله وأحبِّ الأعمال إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: «أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخلُه على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا -أي: المسجد النبوي الذي الصلاة فيه بألف صلاة- ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظمَ غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيَّأ له أثبت الله قدمه يوم تزولُ الأقدام»؛  (رواه الأصبهاني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحسَّنه الألباني).

وخيرُ عبادِ الله أنفعهم لهم   **   رواه من الأصحاب كلُّ فقيـــه 

وإن إله العرش جلَّ جلالُـه   **   يُعينُ الفتى ما دامَ عون أخيه 

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ»؛ (رواه الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه وصححه الألباني) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «وكلُّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة»؛ (رواه الطبراني من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وحسَّنه الألباني).

 

والغبطة- أيها الأحبة- فيمن يسَّر الله له خدمةَ الناس وأعانه على السعي في مصالحهم، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»؛ (متفق عليه).

 

إن دروب الخير - أيها المسلمون – كثيرةٌ، وحوائجُ الناس متنوعة: إطعامُ جائع، وكِسوةُ عارٍ، وعيادةُ مريض، وتعليمُ جاهل، وإنظارُ معسر، وإعانةُ عاجز، وإسعافُ منقطع، تطردُ عن أخيك همًّا، وتزيلُ عنه غمًّا، تكفُل يتيمًا وتواسي أرملة، تُكرمُ عزيزَ قوم ذلَّ، وتشكرُ على الإحسان، وتغفرُ الإساءة، تسعى في شفاعة حسنة تفكُّ بها أسيرًا، وتحقن بها دمًا، وتجُرُّ بها معروفًا وإحسانًا، وشهادةُ حق تردُّ وتحفظُ بها حقًّا لمظلوم.

 

كلُّ ذلك تكافلٌ في المنافع، وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب، تنفيسٌ للكروب، ودفعٌ للخطوب، وتصبيرٌ في المضائق، وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل، فإن كنتَ لا تملكُ هذا ولا هذا فادفع بكلمة طيبة، وإلا فكفَّ أذاك عن الناس، فإنه صدقةٌ منك على نفسك.

 

أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّالَّةِ صَدَقَةٌ، وَنَظَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ»؛ (وصححه الألباني).

 

فاتقوا الله رحمكم الله، وأصلحوا ذات بينكم، ولتكنِ النفوسُ سخيةً، والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعُرى السماحة، ومن بذَلَ اليوم قليلًا جناه غدًا كثيرًا، تجارةٌ مع الله رابحة، وقرضٌ لله حسن مردودٌ إليه أضعافًا مضاعفة، إنفاقٌ بالليل والنهار والسر والعلن،  {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، له الملك وله الحمد، هو المتفضل وصاحب الفضل، هو الكريم وصاحب الكرم، خلق عباده وفضَّل بعضهم على بعض، وجعل بعضهم فوق بعض درجات، يعزُّ ويذل، يغني ويفقر، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع،  {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، الذي وصفته زوجه خديجة رضي الله عنها لمَّا بُعث "كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ متفق عليه.

 

فكان المصطفى صلى الله عليه وسلم يفرج كرب المعدم ومن أصابته النوائب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيُّها المسلِمون، أيها الإخوة في الله، ويبلغ الأدب غايته حين يعلم باذل المعروف أن ما يقدمه من المعروف هو حق لمن قدمه لهم، ساقه الله على يديه، فلا ينتظر منهم جزاءً ولا شكورًا، بخلاف من يتبع معروفه بالمنِّ والأذى، فإنه يمحق أجره ويُبطل ثوابه، ويُعرِّض ما أنعم الله به عليه للزوال.

 

فالمال والجاه والمنصب وغيرها كلُّها من الله، هو واهبها، وهو القادر أن يسلبها من العبد في لحظة.

 

فيا من جعل الله حوائج الناس إليه، ابذل المعروف لهم، صدقةً وإحسانًا، مساعدة وشفاعة، فقد كان السلف رحمهم الله يفرحون بقضاء حوائج الناس أيما فرح، يقول حكيم بن حزام رضي الله عنه: "ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب".

 

أيها المؤمنون، ليس للمعروف حدٌّ، بل لا يقتصر بذل المعروف على بني آدم، فحتى البهائم والحيوان في بذل المعروف لها أجر، فالرحمة في ديننا شملت البهائم حتى القطط والكلاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلا هِي أَطْعَمَتْهَا وَلا هِي أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا»؛ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا في يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا».

 

فيا عباد الله، إن كانت الرحمة وبذل المعروف لكلب من امرأةٍ بغي أوجب لها ما أوجب، ألا تكون الرحمة وبذل المعروف والإحسان للمسلمين أعظم وأنفع؟! فالمعروف وصنائع المعروف تثمر حتى مع البهائم العجماوات.

 

يذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عند حديثه عن الإمام القدوة العالم الجليل شيخ الإسلام في زمانه سفيان الثوري رحمه الله قال: يقول أبو منصور: بات سفيان الثوري في هذا البيت، وكان هنا بُلبل لابني، فقال سفيان: ما بال هذا محبوسًا؟! لو خُلِّي عنه، قال: فقلت: هو لابني وهو يهبه لك، قال سفيان: لا، ولكن أعطيه دينارًا، قال: فأعطاه دينارًا وأخذ البلبل وخلَّى عنه. يقول أبو منصور: فكان البلبل يذهب يرعى فيجيء بالعشي- آخر النهار- فيكون في ناحية البيت، فلمَّا مات سفيان الثوري تبع البلبل معنا جنازته، فكان البلبل يضطرب على قبره، ثم اختلف بعد ليالٍ إلى قبره، فكان ربما بات عند القبر، وربما رجع إلى البيت، ثم وجدوه ميتًا عند قبر سفيان الثوري رحمه الله، فدفن عنده.

 

هكذا يصنع المعروف مع الطير والبهائم فكيف مع بني الإنسان؟! كيف مع إخواننا المسلمين؟! إنه لأعظم أجرًا ومثوبة ونفعًا في الدنيا والآخرة.

________________________________________________________
الكاتب: د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي