إعادة النظر في مفهوم الردع إزاء الكيان الصهيوني.. من دروس طوفان الأقصى

منذ 2024-07-19

من أولى القضايا المهمة التي أثارتها حرب طوفان الأقصى ما يتعلق بمفهوم "الردع" خاصة بين طرف ضعيف وآخر قوي


أثارت حرب طوفان الأقصى إعصارا عارما من التأثير إن على المستوى الفكري أو المستوى الحركي في كل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والدينية والثقافية، وسيظل النقاش دائرا لسنوات طويلة قادمة حول القضايا التي فجرها إعصار طوفان الاقصى في كل هذه المجالات.
من أولى القضايا المهمة التي أثارتها حرب طوفان الأقصى ما يتعلق بمفهوم "الردع"(1) خاصة بين طرف ضعيف وآخر قوي، إذ كانت المناقشات الاستراتيجية المتداولة حول الحروب العربية السابقة منذ حرب 1967 أن التفوق الجوي الإسرائيلي الذي يهدد بضرب العمق المدني والقلب الحيوي للدول العربية والتي كانت تتشدق به إسرائيل بالقول بأن يدها طويلة وتستطيع أن تضرب أي مكان في العالم العربي، هذا التفوق دفع الاستراتيجيين المصريين منذئذ إلى أن يسعوا دائما إلى تحقيق نوع من التوازن الاستراتيجي لتحقيق الردع تجاه إسرائيل عبر امتلاك قوة جوية متطورة، ولكن القوى الدولية التي تهيمن على سوق السلاح الدولي المتقدم الذي يكافئ مستوى التقدم الموجود لدى القوات الجوية الإسرائيلية هي قوى أوروبا الغربية والولايات المتحدة وهي لا تسمح بأن تتمكن القوات الجوية العربية من التوازن فضلا عن التفوق إزاء قوات إسرائيل، وحتى لما كان الاتحاد السوفيتي السابق يملك أنواعا من الطائرات يمكنها أن توازن القوة الإسرائيلية الجوية فإنها لم تكن تعطي هذه النوعية للعرب، وأبرز مثال على ذلك الطائره الميج 25 التي لم يعطها السوفيت لمصر وعندما أعاروها سربا واحدا منها فقد ربض في المطارات المصرية وكان يدار بالكامل من قبل الطيارين الروس وعندما انسحب الروس من مصر قبيل حرب أكتوبر 1973 أخذوا معهم هذا السرب، ومن هنا سعى الاستراتيجيون المصريون الى تحقيق نوع من الردع ضد إسرائيل، وفي البدايه طلبوا القاذفات الاستراتيجية وحصلوا على القاذفات الاستراتيجية (TU) السوفيتية ولكنهم لم يطمئنوا لها ولم يشعروا انها تحقق الردع تجاه إسرائيل رغم قدرتها على قصف القلب الحيوي للكيان الصهيوني، فطلبوا الصواريخ سكود والتي مداها يتراوح بين 300 كلم الى 500 كلم وبالتالي فهي قادرة على قصف أي مكان في إسرائيل اذا انطلقت من شرق القاهرة، وكان الهدف من ذلك ردع إسرائيل عن ضرب القلب الحيوي لمصر بعد ان كانت إسرائيل ضربت مواقع من القلب الحيوي لمصر مرارا، وضربت مدارس ومستشفيات ومصانع سابقا إثر الانهيار الذي حدث للجيش المصري وخاصة للقوات الجوية المصرية في حرب 1967، وحينها ظلت إسرائيل تقصف أي مكان تريد قصفه بطول مصر وعرضها الى أن تمكنت مصر من الحصول على الدفاع الجوي الروسي الذي كان متقدما في ذلك الوقت، وحمت به القاهرة ثم مددته لتصل به الى قناة السويس لتحمي كل مدن القناة، كل هذا حدث بسبب التفكير بضروره حماية القلب الحيوي من الاعتداءات الصهيونية.
وكان الاستراتيجيون العرب والمصريون منهم بخاصة يرون أنه لا يمكن أن تدخل في صراع عسكري مع إسرائيل دون أن تحقق مثل هذا الردع الجوي او الصاروخي، كبديل عن التكافؤ في القوة الجوية مع العدو.
 كان هذا هو الفكر الاستراتيجي السائد لدى مفكري العرب الاستراتيجيين قبل حرب طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، لكن صرنا الآن نرى الصمود الفلسطيني في غزة ضد القوة الغاشمة المجرمة الصهيونية واستمرار الاشتباك والهجوم على العدو الصهيوني رغم القصف الوحشي الإجرامي على المدنيين ليس في القلب الحيوي لغزة فقط بل لكل شبر في غزة، ومع ذلك تتمكن المقاومة الفلسطينية من مواصلة الاشتباك على مدار الـ 24 ساعة طوال تسعة شهور حتى الآن وتُكبد العدو خسائر فادحه رغم هذا.
 وهنا يجب التأمل ما الذي مَكَّن المقاومة الفلسطينية من استمرار الاشتباك والدفاع والهجوم رغم عدم تحقيقها الردع ولا التكافؤ الجوي مع إسرائيل؟؟
 لقد كان الاستراتيجيون العرب قبل 7 أكتوبر 2023 يقولون إن هذا مستحيل، ولقد رأوا أن هذا مستحيل لأنهم شعروا أن الجبهة الداخلية سوف تنهار تحت الضربات الوحشية الإسرائيلية الجوية، ولكننا نرى الآن أن مليوني فلسطيني في غزة مازالوا صامدين، ورغم الخسائر التي لم يشهد التاريخ مثلها خاصة بين النساء والاطفال والمدنيين، فلماذا صمدت الجبهة الداخلية الفلسطينية؟ ولماذا تمكنت قوات المقاومة الفلسطينية من الاستمرار في القتال والاستمرار في تكبيد العدو خسائر فادحه؟؟
يرجع ذلك كما هو مشاهد إلى عدة أمور أبرزها ارتفاع الروح المعنوية وقوة عقيدة الشعب الفلسطيني في غزة.
 إن قوة العقيدة الإسلامية هي التي منحتهم روحا معنوية عالية وأعطت لهم صمودا أسطوريا.
 كما أن رسوخ مبادئ السعي للتحرر من الاحتلال الصهيوني ورسوخ مبادئ أهميه الصمود وأهمية الجهاد ضد الصلف والإجرام الصهيوني كل هذا ساهم في صنع صمود أسطوري للشعب الفلسطيني في غزة.
ويضاف إلى ذلك كله أمر آخر وهو أمر طبيعي لكنه قد يغفل عنه بعض الناس وهو "الاعتياد"، فعندما تأخذ قرارك بخوض عمل ما رغم صعوبته ثم تنخرط فيه ويصيبك بعض الألم والأذى من مباشرة هذا العمل فإنك إن واظبت عليه، واستمريت في تنفيذه فإنك تتعود على تحمل هذا الألم وهذا الأذى من أجل تحقيق هدفك الأسمى من إنجاز هذا العمل، لكن هذا الاعتياد على تحمل الألم لا يحدث إلا بتحقيق الصبر المقترن بالايمان بالقدر خيره وشره، لأن المتسخط على القدر والجازع من البلاء لا يصبر عادة.
ان الذي دفع شعب غزة الى الانخراط في هذا الصبر هو الاقتناع بأهمية الجهاد ضد العدو الصهيوني مع الايمان القوي بالعقيدة الإسلامية.
ان دروس الصمود هذه يجب تأملها لأنها لو لم تكن موجوده لما تمكنت المقاومة من مواصلة القتال، إن المقولة المعتادة القديمة عن أهميه حماية الجبهة الداخلية من الضربات الوحشية الصهيونية حتى تتمكن الدولة من قتال الصهاينة هذه المقولة الآن تعرضت لاختبار ويبدو أنها رسبت فيه، لأن المقاومة الفلسطينية في غزة مازالت تقاتل بنجاح منذ تسعة شهور رغم استمرار القصف الصهيوني الوحشي.
ومن الدروس المهمة الجديرة بالتأمل أيضا في حرب طوفان الأقصى هي حقيقة الدفاع الجوي المتطور في هذه الأيام لأن الدفاع الجوي الإسرائيلي هو من أقوى الدفاعات الجوية في العالم ومن أكثرها تطورا لجمعه بين التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمه في هذا المجال والتكنولوجيا الأمريكية والأوروبية الأكثر تقدما في العالم، كما أن هذا الدفاع تم ابتكاره واختباره وتدريبه وتجريبه في مواجهه هجمات المقاومة الفلسطينية وهجمات حزب الله اللبناني التي تعتمد على صواريخ بدائية ومقذوفات بدائية وهذه البدائية عادة ما تشوش على التكنولوجيا الحديثة لأن التكنولوجيا الحديثة في الدفاعات الجوية تعتمد على البصمات الرادارية وعلى الإشارات الإلكترونية المستعملة في الأسلحة الصاروخية والمقذوفات الحديثة والمتقدمة والتي عادة ما تكون متصلة بالانترنت وتستخدم الجي بي اس لتحديد المواقع وكل هذه الأشياء تتيح ثغرات يمكن للردارات الحديثة والدفاعات الجوية الحديثة أن تنفذ منها كي تتمكن من التصدي لهذه الذخائر الفائقة التقدم والصواريخ فائقة التقدم وبالتالي صار التصدي للصواريخ والقذائف البدائية التي لا تحتوي على وسائل الكترونية أمرا صعبا، ولذلك فان الدفاع الجوي الإسرائيلي متفوق بسبب أخذه في الاعتبار لكل هذه الأمور التي ذكرناها، ورغم هذا فان هذا الدفاع الجوي الصهيوني مازال يعجز في حالات كثيرة حتى الآن أمام قصف المقاومة.
وهذا أمر جدير بالتأمل لأنه يوضح ويثبت أنه يمكن اختراق هذا الدفاع الجوي المتقدم جدا ومن هنا فهذا التأمل يعطي دروسا مهمه ليس في مواجهة إسرائيل فقط ولكن في مواجهة أي دولة في العالم مهما كان دفاعها الجوي قويا ومتكاملا ومتقدما وشديد الحداثه، فـ"هناك فرص دائما" وهذه القاعدة اذا كانت تخص مسأله الدفاع الجوي هذا والمعارك هذه، ولكنها أيضا قاعدة عامة في التخطيط الإداري والسياسي والعسكري والإقتصادي وفي كل شيء فـ"في كل أمر هناك فرص وهناك مخاطر علمها من علمها وجهلها من جهلها" والعالم هو من علمه الله. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])الردع هو وسيلة لتقييد حرية الخصم في اختيار الحركات العسكرية إزاءنا. انظر: الهيثم الايوبي (رئيس التحرير)، الموسوعة العسكرية العربية، ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ب.د.ت، ج2 ص 848 وما بعدها.
 

عبد المنعم منيب

صحفي و كاتب إسلامي مصري