من الرزق الحسن

منذ 2024-08-12

"فمن الرزق الحسن أن تجد الصاحب الذي يساعدك على تخطي الصعاب، ويفتح لك بارقة الأمل"

من محاسن الحياة أن يرزُقَك الله بصاحب وصديق، التفاؤل يكون مُحيَّاه، والفأل وحسن الظَّنِّ مع الأخذ بالأسباب يكون منهاجه، وقراءة المواقف الحياتية التي تمر به وبالآخرين بإيجابية وبُعْدِ نظرٍ تكون علامة بارَّة بينه وبين الآخرين، وإن تحدث ذلك الصاحب والصديق معك أو مع الآخرين، تراقصت كلماته أملًا وحيوية وإيجابية؛ فهذا من الرزق الحسن.

 

وهذان شاهدان من السيرة على ذلك، إن كان ذلك الصاحب ذكرًا أو أنثى:

الشاهد الأول: النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصِّدِّيق رضي الله عنه في غار ثور:

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الهجرة، وهما متخفِّيان في الغار، والباحثون عنهما من كفار مكة بجوارهم، بل أقرب من ذلك؛ قال الصِّدِّيق: ‏نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه، أبصرنا تحت قدميه؛ ‏فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما»؟؛ (متفق عليه).

 

أنْعِمْ وأكْرِمْ بذلك الصاحب والصديق.

 

الشاهد الآخر: الصاحبة والصِّدِّيقة خديجة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة أول لقاء للنبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام في غار حراء:

تنزَّل القرآن، فرجع صلى الله عليه وسلم خائفًا مرتعدًا، وهو يقول: «زمِّلوني زملوني»، وهنا يتضح جليًّا دور المرأة الْمُحِبَّة لزوجها، والواعية باحتياجاته النفسية والعضوية، والمقدِّرة له، والمعتزة به وبما يقوم به من أدوار نبيلة في بيته ومجتمعه؛ فالنساء هُنَّ شقائق الرجال، وليس كما يُردِّد أذناب الوحوش الجائعة للتمتع الحيواني بالمرأة؛ ولذا كان لخديجة رضي الله عنها هنا موقفٌ سجَّله التاريخ، ودور عظيم لا يقوم به سواها، أو من على مائدتها تربَّى رضي الله عنها؛ ولذا سُمِّيَ العام الذي ماتت فيه خديجة، ومات فيه عمه أبو طالب، عامَ الحُزن؛ لأنه فَقَدَ فيه صلى الله عليه وسلم الحِضنَ الحاني، والعمَّ الحاميَ.

 

ونعود إلى موقف خديجة رضي الله عنها؛ فقد جاء الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد هذا اللقاء بجبريل عليه السلام وهو يراه على صورته الحقيقة، يُغطِّي أُفُقَ السماء بعد انتهاء هذا اللقاء؛ فجاء صلى الله عليه وسلم وهو خائف يرتعد من هَولِ الموقف؛ كما ورد في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ((أنه حُبِّب إلى النبي صلى الله عليه وسلم الخلاء؛ فكان يلحق بغار حراء فيتحنَّث فيه - والتَّحنُّث: التعبُّد الليالي ذوات العدد - قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الْمَلَكُ فقال: اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 1 - 4]؛ الآيات إلى قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: «زملوني، زملوني»، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع، قال لخديجة: «أي خديجة، ما لي؟ لقد خشيت على نفسي»، فأخبرها الخبر، قالت خديجة: كلَّا، أبْشِرْ فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لَتَصِلُ الرَّحِم، وتصدُق الحديث، وتَحمل الكَلَّ، وتَكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق.

 

فانطلقت به خديجةُ حتى أتَتْ به ورقة بن نوفل – وهو ابن عم خديجة أخي أبيها - وكان امرأً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ.

 

فقالت خديجة: يا بن عمِّ، اسمع من ابن أخيك، قال ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى، ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوَ مُخْرِجيَّ هُم»؟ قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل بما جئت به إلا أُوذيَ، وإن يدركني يومك حيًّا، أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشَب ورقةُ أن تُوفِّيَ)).

 

فهنا برز دور خديجة رضي الله عنها في كيفية التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت نظرتها الإيجابية لزوجها، وكيف أنها ذكَّرته وهي جازمة بتلك المناقب والصفات التي لا يخذل الله صاحبها، وهي تُعدِّد تلك المناقب، وهي واثقة من ذلك، وهذا مما يرفع الروح المعنوية لدى زوجها، فقالت: "كلا، أبْشِرْ فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، يا روعة الموقف.

 

نعم، فمن الرزق الحسن أن تجد الصاحب أو الصاحبة الذي يساعدك على تخطي الصعاب، ويفتح لك بارقة الأمل؛ لتمتصَّ المواقف الصعبة في الحياة، فلا تلتفت إلى ترجيف أو تخويف المتربصين بك الدوائرَ؛ فتمضي في الحياة بخطًى ثابتة، ورأي رشيد، وقول سديد، رزقنا الله وإياكم ذلك الصاحب والصديق.

______________________________________________________
الكاتب: د. عوض بن حمد الحسني