الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة..

منذ 4 ساعات

«اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شَاءَ»


أيها الإخوة الكرام:  إن أبواب الخير كثيرة،  ومواطن العمل الصالح عديدة، وصاحب المعروف مشكور ومأجور..

 قال الله تعالى { ﴿ وَمَنْ أَرَادَ ٱلْءَاخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُو۟لَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾}

ومن أبواب الخير، ومن مواطن العمل الصالح، ومن صور صناعة المعروف (الشفاعة) ولا نقصد بالشفاعة هنا شفاعة الآخرة،  إنما نقصد شفاعة الدنيا،  شفاعة الإنسان لأخيه الإنسان في الدنيا.. 

وقد ورد الحديث عن هذه الشفاعة في موضع واحد فقط من القرآن الكريم وتحديداً في سورة النساء في قول الله تعالى{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ﴾}

قال مجاهد بن جَبْر: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "الشفاعةُ الحسنة هي الإصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة هي المشي بالنميمة بين الناس"

الشفاعة الحسنة هى:  صورة من صور السعي في قضاء حوائج الناس في غير معصية الله سبحانه وتعالى.. 

الشفاعة الحسنة هى:  أن تسعى لتجلب الخير للناس من غير أن تعطي ما لا تملك لمن لا يستحق،  ومن غير أن تجور على حق إنسان آخر،  ومن الشفاعة الحسنة أيضا أن تسعى لدفع الشر عن الناس من غير أن تضيع بشفاعتك حق إنسان آخر، أو تعطل حداً من حدود الله عز وجل.. 

الشفاعة الحسنة جهدٌ، وعمل صالح، الشفاعة الحسنة حماية،  ووقاية،  الشفاعة الحسنة مساعدة،  الشفاعة إحسان، وتيسير، وإعانة، وإغاثة في غير معصية الله عز وجل، ومن غير إسقاطِ حدٌٍ مِن حدودِ اللهِ تعالَى.. 

أخرج البخاري عليه رحمة الله من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:  كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أوْ طُلِبَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ لأصحابه : اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شَاءَ.. 

««اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شَاءَ» »
هذا الحديث ما معناه ؟ 
هذا الحديث معناه: أن النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يحب الشفاعة الحسنة وأنه صلى الله عليه وسلّم كان رَؤُوفًا رحيمًا بالنَّاسِ..

قال «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شَاءَ» هذا الحديث ما مفاده ؟  هذا الحديث مفاده: أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يَسعى بنفسه،  ويدعو غيره للسعي في قَضاءِ الحَوائجِ والتَّوسُّطِ عند الناس للنَّاسِ بالحقِّ والعدل.. 

لماذا يشفع رسول الله عند الناس للناس ويدعونا لذلك ؟ 
ليُعلِّمَ أُمَّتَه التعاوُنَ على البِرِّ والتقْوى،  لنتعلم إغاثة الملهوف،  ونجدة المكروب،  وإعانة الناس على إقامة الدين والدنيا..  لنتعلم ذلك كله من قول ومن فعل النبي عليه الصلاة والسلام.. 
قال « «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شَاءَ»»

وللمشفوع عنده حق قبول الشفاعة،  وله أيضاً ألا يقبل الشفاعة ولا حرج عليه.. 

عَنْ كَعْبٍ بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أنَّه تَقاضَى ابْنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كانَ له عليه في المَسْجِدِ، فارْتَفَعَتْ أصْواتُهُما حتَّى سَمِعَها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِما حتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ.. 

أما كعب بن مالك فهو صاحب المال ويطلب حقه،  وابن أبي حدرد عليه المال ويود أن يسد ولا يستطيع.. 

فما كان من رسول الله إلا أن شفع لابن أبي حدرد عند كعب بن مالك شفاعة حسنة.. 
فنادَى النبي : يا كَعْبُ بن مالك، قالَ: لَبَّيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: ضَعْ مِن دَيْنِكَ هذا، فأوْمَأَ إلَيْهِ - أيِ الشَّطْرَ - فقبل كعب بن مالك شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقالَ: لقَدْ فَعَلْتُ يا رَسولَ اللَّهِ، فقالَ النبي لابن أبي حدرد: قُمْ فاقْضِهِ حقه.. 

وفي المقابل شفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى صحابية فلم تقبل شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم،  ولم يعتب عليها رسول الله أن ردت شفاعته،  لأن الشفاعة غير مُلزمه.. 

هذه الصحابة يقال لها (بريرة) وكانت بَرِيرةُ رَضِيَ اللهُ عنها أَمةً مملوكةً، اشتَرَتْها أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها وأعتقَتْها، وكان زَوجُها عبدًا مملوكاً، يقال له (مغيث)

 فلمَّا أُعتِقَت بريرة (خُيِّرت) بين أن تَظَلَّ على زواجِها من مغيث وبين أن تفارِقَه، فاختارت بريرة أن تفارق مغيثاً.. 

فقامت قيامة مغيث ودخل عليه الهمّ والغم، وجعل يمشي بطرقات المدينة يبكي لعل بريرة أن تشفق عليه وترجع إليه.. 

يقول ابن عباس:  كَأَنِّي أنْظُرُ إلَي مغيث يَطُوفُ خَلْفَ بريرة يَبْكِي ودُمُوعُهُ تَسِيلُ علَى لِحْيَتِهِ، حتى رآه رسول الله فَقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِعبَّاسٍ: يا عَبَّاسُ، ألَا تَعْجَبُ مِن حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، ومِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا! 

عند ذلك رأى رسول الله أن يشفع لمغيث عند بريرة فدعاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : أي بريرة لو رَاجَعْتِ مغيثاً، قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ؛ أتَأْمُرُنِي أن أرجع إليه؟ قالَ: إنَّما أنَا أشْفَعُ، قالَتْ: لا حَاجَةَ لي فِيهِ.. 
ولم تقبل شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا حرج عليها.. 

لكن يبقى من يسعى بالشفاعة الحسنة سواء قبلت شفاعته أو لم تقبل يبقى الساعي بالشفاعة الحسنة مشكورا ومأجورا قال الله تعالى { ﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} }

وأما قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ««ويَقْضي اللهُ على لِسانِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شاءَ» »
فالمعنى:  أن الشفاعة عند الناس للناس إنما هى أخذ بالأسباب فقط ،  والأخذ بالأسباب لا يقدم خيراً ولا يدفع شراً إلا بأمر مسبب الأسباب سبحانه وتعالى،  فالأمر كله مرجعه إلا الله عز وجل هو الذي يحكم وهو الذي يأذن  {﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِۦ ۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ﴾}

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.. 

الخطبة الثانية 
بقى لنا في ختام الحديث عن الشفاعة الدنيوية بين الناس أن نقول:  كما أن من الشفاعات شفاعات حسنة صاحبها مأجور ومشكور، من الشفاعات شفاعات سيئة صاحبها مأزور غير مأجور.. 

قال الله تعالى «وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا » 

الشفاعة السيئة:  أن تسعى لتعطي ما لا تملك لمن لا يستحق ... 

الشفاعة السيئة: أن تظلم غيرك،  أن تسعى بشفاعتك لتأكل حق الضعيف،  أن تدفن بشفاعتك السيئة الحق وتظهر الباطل.. 

ورد في الصحيح من حديث عَبْد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: 
«مَن حالَت شفاعتُهُ دونَ حدٍّ من حدودِ اللهِ فقد ضادَّ اللهَ في أمرِهِ ، و من مات و عليه دَينٌ فليسَ ثَمَّ دينارٌ و لا درهمٌ ، و لكنَّها الحسناتُ و السيِّئاتُ ، ومَن خاصمَ في باطلٍ وهو يعلَمُ لم يزَلْ في سخَطِ اللهِ حتَّى ينزِعَ ، ومَن قال في مؤمنٍ ما ليس فيهِ ، حُبِسَ في ردغةِ الخبالِ ، حتَّى يأتيَ بالمخرَجِ مِمَّا قالَ» 

الشفاعة السيئة: أن تتوسط لتسقط حقاً من حقوق الله عز وجل.. 

ورد في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَ «ا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ)، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ:  (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)»

«قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثم إن المخزومية تابت فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدُ وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأْتِينِى بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم » . 

نسأل الله العظيم أن يستعملنا في طاعته،  وأن يرزقنا الخير أين كان..

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.