وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً..

منذ 2024-09-04

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21].

{﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ } [الروم: 21]

 

يقول الله تعالى: {﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾} [الروم: 21].

من الآيات الدالَّة على عظمة الله وكمال قدرته أن خلق لأجلكم أيها الرجال أزواجًا لتطمئن نفوسكم إليها وتسكن، والسكن الميل والأُلْفة، وجعل بين المرأة وزوجها محبةً ورحمةً، فالله خلق كلًّا من الجنسين على نحو يجعله موافقًا للآخر ملبيًا لحاجته الفطرية، يجد عنده الراحة والطُّمَأْنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والمودَّة والرحمة... وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد.

يتميز القرآن الكريم في اختيار ألفاظه التي تؤدي معناها بدقة، فالمودة هي المحبة بين الأزواج، عن ابن عباس- رضي الله عنه- قال: المودة حُبُّ الرجل امرأتَه، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء؛ (تفسير القرطبي).

لكن ما الفرق بين المودة والمحبة؟

للحب مساوئ منها أنه قد يجعل الإنسان أسير تجربته العاطفية المؤلمة، والحب وجع في القلب ويزيد في عذابه الفقد والغياب، إضافة إلى أنه يختزل أحلام الإنسان وآماله في مجرد الوصل بالمحبوب، وهي حالة غير سويَّة تلغي دور الإنسان في الحياة، وتعيقه عن القيام بواجبه المكلف به، وهو الاستخلاف في الأرض، كما يقول الشاعر:

لتكليمُ يومٍ من بثينةَ واحدٍ      ألذُّ من الدنيا لديَّ وأملحُ!

 

وقد شكا قيس لُبْنى جراح الحب:

سلي اللَّيلَ عنِّي كيف أرعَى نُجُومَهُ      وكيفَ أقاسِي الهَمَّ مُستخلِيًا فَرْدا

 

وقد مضى جميل بن معمر إلى قبره هزيلًا وهو ينشد:

يهواكِ ما عشتُ الفؤاد فإنْ أمُتْ       يتبعْ صدايَ صداكِ بين الأقبرِ!

 

وقد ينتهي الحب بعد الزواج، فما عاد الغياب دافعًا للشوق والذكرى، وما عاد الوجدُ يفتك بقلوب المُحبِّين، ولا يؤرق نومهم.

فالمودة ليست الحب لكنها هي التي تجلبه، وجميل بثينة يقول:

فيا ربِّ حبِّبني إليها وأعطني      المودَّةَ منها أنتَ تُعطي وتمنعُ

 

فهو يرى الحب وجعًا دائمًا، والمودة غايةً ومطلبًا.

 

المودة هي الحِضْن الذي يرعى الحب، وكلما أظهر أحد الزوجين الاحترام والتقدير والاهتمام قويت وشائج المودة بينهما، وكأنها كائن حي ينمو بالتدريج، ويقوى بالتغذية السليمة، ويتطلب رعاية دائمة.

 

إن الدعائم التي أقَرَّها الإسلام لبناء البيوت الصحية السليمة هي: المودة، والرحمة، والسكينة. فالحب الحقيقي الصادق هو نتيجة وجود 3 عناصر يتفاعل بعضها مع بعض، وهي المودة والرحمة والسكينة، المودة والرحمة متلازمتان؛ لأن وجود الرحمة يجعل أحد الزوجين يغض الطرف عن مساوئ وعيوب الآخر، ويجعل القدرة على التحمُّل وقت مواجهة الصعوبات والمشاكل أكبر، فيما السكينة هي حصيلة المودة والرحمة (المودة.. علاج البيوت التي لا تعرف الحب؛ سهير الصلاح).

 

الرحمة تُليِّن القلب وتنظر إلى الضعيف أو المخطئ بعطف ورقة، وتُمكِّن صاحبها من التروِّي والتفكير قبل اتخاذ أي موقف أو تصرُّف، وتعطي قدرة أكثر على معالجة الموقف. فمن الرحمة التغاضي عن بعض الأخطاء والهفوات والتركيز على الإيجابيات التي يتمتع بها الآخر، مسؤوليات وواجبات الحياة الزوجية والأدوار المنوطة لكل من الزوجين تفرض نوعًا من التفاعل الاجتماعي والعاطفي عند التعامل مع المواقف المختلفة ومواجهة بعض الصعوبات والتحديات.

 

بالانسجام والتوافق تنمو المودة، وإذا غاب الانسجام والتوافق تحول الاحتكاك الاجتماعي إلى خلافات واختلافات قد تقود لمشاحنات ومصادمات غير مرغوبة.

 

الصمت بين الزوجين هو العدوُّ الأول لقتل المودة، فقد تنتاب الزوج مشاعر سلبية بسبب تراكمات لم يصارح بها زوجته أولًا بأول لتعرف ما يريد وما لا يريد معتقدًا أن عليها أن تعرف هي بنفسها. ومن شأن الحوار أن يساعد على معرفة طبيعة شخصية الآخر وفهمها. ومن البديهي مهما بلغ الوفاق والانسجام مبلغه لا بد أن تظهر صفات وأفعال قد يكرهها الزوج من زوجته والعكس صحيح.

 

هناك جهد لا بد أن يبذل لإظهار المودة لشريك الحياة والتغلب على مشاعر الجفاء والعناد والنفور وعدم التقبل والزعل وربما الكره، حتى لا تنعكس المشاعر السلبية على السلوكيات.

 

إن قوة المودة تكمن في إظهار أفعال وسلوكيات إيجابية للطرف الآخر تتسم بالتقدير والاحترام والاهتمام.

 

أوجد الله تعالى الأزواج للسكن، بمعنى أن وجود الزوج والزوجة معًا مدعاة للإحساس بسكينة النفس وطمأنينتها واستقرارها، كل منهما يوفر للآخر السكن بمعنى الحماية والأمن والسلام والراحة، وبدون الانسجام والتوافق الذي يؤدي إلى المودَّة لا يكون سكن وهو الشرط الذي لا بُدَّ منه لإقامة البيوت السعيدة والناجحة.

 

وقال تعالى: {﴿ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾ } [الروم: 21] يقال: سكن إليه للسكون القلبي، ويقال: سكن عنده للسكون الجسماني؛ لأن كلمة (عند) جاءت لظرف المكان، وذلك للأجسام، و(إلى) للغاية وهي للقلوب؛ (التفسير الكبير، الرازي).

 

والجنسان الحيان- المختلفان- لا يسكن أحدهما إلى الآخر؛ أي: لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه.

 

عن عائشة- رضي الله عنها - قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «"الأرواح جنود مُجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكَرَ منها اختلف"» ؛ (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة، ح 3336).

 

فإذا اتفقت الأرواح تعارَفَتْ، وإذا اختلفت تناكَرَتْ؛ ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها، وتنفر من مخالفها.

 

وقد أسَّس الإسلام نظام الزواج الشرعي لحفظ النسل والأعراض، وحرص على دوام الودِّ والمحبة بين الزوجين وشرع لذلك أسبابًا من بادئ الأمر في الخطوبة، حتى يكون أدعى لدوام العشرة بينهما؛ (الدرر السنية).

 

وقد أخبر أبو هريرة- رضي الله عنه- أنه كان حاضرًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه رجل يخبره أنه خطب امرأة، فسَألَه النَّبيُّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «هَل نَظرْتَ إليها؟ فأجابَ الرَّجلُ بأنَّه لم ينظُرْ إليها، فأمَرَه النَّبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنْ يذهَبَ وينظُرَ» إليها؛ (صحيح مسلم، ح 1424).

 

وفي أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- مصلحة كبرى؛ فقد يكون في المرأة شيء يؤثر في دوام العشرة بعد الزواج، فبالنظر إليها يتبيَّن له ويعرفه.

ميسون سامي أحمد