أتى أمر الله
يكابِدُ أهلُ غزَّةَ مشقَّاتٍ وأهوالًا تعجِز عن حملها الجبال، وهذه الآلام الجِسام أوجعت القلوب، وأبكت العيون، حتى جعلت الكثير يتساءل: متى نصر الله؟ والإجابة من كتاب الله تعالى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
يكابِدُ أهلُ غزَّةَ مشقَّاتٍ وأهوالًا تعجِز عن حملها الجبال، وهذه الآلام الجِسام أوجعت القلوب، وأبكت العيون، حتى جعلت الكثير يتساءل: متى نصر الله؟ والإجابة من كتاب الله تعالى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وسؤال: متى نصر الله؟ قديم، واستبطاء النصر طبيعة بشرية، أصابت الناس جميعًا، حتى الأنبياء أنفسهم قالوا: متى نصر الله؟ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ففي الآية الكريمة يذكِّر الخالق جل جلاله عباده المؤمنين بحقيقة إيمانية مستقرة، أن النصر في الدنيا والفوز في الأخرى، لا بد أن يمر عبر البأساء والضراء، والمصائب والمحن، التي تُزلزل الصف المسلم، وتكاد تُذهِب بالعقول من شدة هولها.
وفي تفسير هذه الآية يقول إمام المفسرين ابن جرير الطبري: "أم حسبتم أنكم - أيها المؤمنون بالله ورسله - تدخلون الجنة، ولم يُصِبْكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل، من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختُبروا به من {الْبَأْسَاءُ} [البقرة: 214]؛ وهو شدة الحاجة والفاقة، {وَالضَّرَّاءُ} [البقرة: 214]؛ وهي العلل والأوصاب، ولم تُزلزلوا زِلزالهم؛ يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ، حتى يستبطئ القوم نصرَ الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعلِيهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا".
وما ذكره الطبري في تفسيره منذ أكثر من ألف ومائة عام، هو عين ما حل بأهل غزة بعد مرور أحد عشر شهرًا من بداية الحرب، فقد فرض عليهم الاحتلال حصارًا مطبِقًا؛ حيث منع عنهم الغذاء والدواء، والماء والكساء والكهرباء، فنزلت بهم كل صنوف البأساء والضراء، والأمراض والأدواء، والطواعين والأوجاع، فزلزلت صفَّهم، وأوجعت قلوبهم، فصبروا واحتسبوا، وهتفوا صباحَ مساءَ: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، فلا نملك إزاء هذا الابتلاء من الخالق، الذي قابله المخلوق بالرضا والثبات، إلا أن نوقن بأن نصر الله قريب، كما وعد ربنا جل جلاله في كتابه.
هلاك الظالمين:
مضت سُنَّة الله في خلقه أن ينصر المظلوم، وهو في أتم ضعفه، ويُهلِك الظالم وهو في أَوجِ قوته، ولنا في قصة موسى وفرعون عِبَرٌ وآيات؛ فقد أغرق الحق سبحانه وتعالى فرعون وجنوده وهم في أتم قوتهم، بكامل عددهم وعتادهم، ونصر الحق سبحانه وتعالى موسى ومن معه وهم في أتم ضعفهم؛ قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، وقال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
وأرى - والله - أن الحق سبحانه وتعالى قد أتم نعمته، وصدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأرى أن غزة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من نصر مبين، وفتح عظيم، بفضل الله وحده، وذلك وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، ومَن أصدق من الله حديثًا؟ قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1].
وأمرُ الله هنا هو كل ما وعد الله به عباده من نصر المؤمنين، وتعذيب المجرمين، وتنعيم الطائعين، وقد جاء التعبير القرآني بلفظ الماضي؛ للتأكيد على أنه واقع لا محالة، فانتصار غزة على الاحتلال الصهيوني بات قريبًا جدًّا بإذن الله تعالى وحده لا شريك له.
السيئات تحجب نصر الله عن الصف المسلم:
وهنا قد يقول بعض المرجفين: إن نصر الله لا يتنزل إلا على من يستحقه، ومن يستحقه هم قوم امتثلوا أمر الله، واجتنبوا نهيه، هم قوم فعلوا الحسنات، وابتعدوا عن السيئات، فاستحقوا نصر الله عز وجل، أما المسلمون اليوم فحدِّث ولا حرج، عن بُعدهم عن دين الله، بل ومحاربتهم لدين الله، فهل مثل هؤلاء يستحقون نصر الله؟ دعنا نتكلم بصراحة: إن المسلمين اليوم لا يستحقون النصر بسبب بعدهم عن دين الله.
ولا يقول هذا الكلام إلا المرجفون الذين يشيعون أخبار السوء، ويخوِّفون المسلمين، وينشرون روح اليأس بين المجاهدين خصوصًا، وبين الصف المسلم عمومًا، وبالأحرى إذا رُدِّد هذا الكلام والمعركة دائرة، والصف المسلم يحتاج من يثبته، ويدعمه، ويؤازره، ويشد من عضده، وهو يخوض معركة صعبة جدًّا ضد الاحتلال الغاشم.
ويجب أن نعلم أن جيل النصر المنشود الذي يفتح الله على يديه هم بشر خطَّاؤون غير معصومين، وكل ابن آدم خطَّاء، بلا استثناء، وقد نصر الله جل جلاله موسى ومن معه، وأراهم آية من أعظم الآيات في التاريخ كله، ورأوا بأم أعينهم غرق فرعون وجنده، وهم في أبهى صورهم، وكامل عددهم، وأروع عتادهم، فماذا فعلوا؟ قال تبارك وتعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138، 139].
فبعد أن نجى الله عز وجل موسى وبني إسرائيل من فرعون وجيشه، أتَوا على قوم يعبدون الأصنام، فطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصنامًا يعبدوها من دون الله، وذلك عقب نجاتهم من الغرق، وفور انتصارهم المعجز مباشرة.
واليقين الذي لا شك فيه أن الصف المسلم اليوم على مستوى إيماني أعلى وأحسن من مستوى قوم يطلبون صناعة أصنام ليعبدوها، ومع ذلك نصرهم الله عز وجل على طاغية من أعتى الطغاة في التاريخ، وفي جولة من أهم جولات الصراع بين الحق والباطل عبر التاريخ.
فنحن بإذن الله على مسافة قريبة جدًّا من نصر الله؛ كما قال الله في كتابه: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
- التصنيف: