خلق التواضع
خُلُق التواضع، فهو صفة حميدة، وخَصْلَةٌ كريمة، ينال بها العبد رضا الله تعالى، ورضا الناس عنه، فالمتواضع يُحِبُّه الناس ويألفونه، ويطمئنون إليه؛ بخلاف المتكبر.
خُلُقٍ من الأخلاق الفاضلة، وخَصْلَةٍ من الخِصال الحميدة التي حثَّ عليها الإسلام؛ إنه خُلُق التواضع، فهو صفة حميدة، وخَصْلَةٌ كريمة، ينال بها العبد رضا الله تعالى، ورضا الناس عنه، فالمتواضع يُحِبُّه الناس ويألفونه، ويطمئنون إليه؛ بخلاف المتكبر.
ومعنى التواضع: خفض الجَناح، ولِينُ الجانب، والبعد عن الاغترار بالنفس، والتعالي على الناس والتكبر عليهم؛ فلا يترفَّع الإنسان على غيره بعلم ولا نسب، ولا مال ولا جاه، ولا إمارة ولا وزارة، ولا غير ذلك، بل الواجب على المرء أن يُخفِضَ جناحه للمؤمنين؛ قال الحسن البصري رحمه الله: "التواضع أن تخرج من منزلك فلا تَلْقَ مسلمًا إلا رأيتَ له عليك فضلًا"، والمعنى التطبيقي: أن تخرج من بيتك، وتعتقد أن كل من تقابله هو خير منك.
ولقد حثَّنا الله تعالى على التواضع؛ فقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]؛ قال القرطبي رحمه الله: "ألِنْ جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم، وأصله أن الطائر إذا ضمَّ فَرْخَه إلى نفسه بَسَطَ جناحه، ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفًا لتقريب الإنسان أتباعه".
وقال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]، ومَدَحَ الله تعالى عباد الرحمن لاتصافهم بهذا الخُلُق؛ فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وهو من جملة وحيِهِ لصفوة خَلْقِهِ من الأنبياء والمرسلين؛ في صحيح مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا؛ حتى لا يفخَرَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يَبْغِيَ أحد على أحد».
ولخُلُق التواضع فوائده وثمرات عظيمة يجنيها المسلم؛ فمنها:
1- أنه من أسباب محبة الله تعالى لذلك المتواضع؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة: 54].
وأما المتكبر، فإنه يُبغضه الله تعالى ولا يُحبه؛ كما قال تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23].
2- وهو من أسباب الرِّفعة والعزة لأهله في الدنيا والآخرة، ويُعلي التواضع قدرهم عند الله وعند الناس؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله».
وأما المتكبر فإنه يُحشَر يوم القيامة أذلَّ وأحقر الناس؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذَّرِّ في صور الرجال، يَغْشَاهم الذُّلُّ من كل مكان، فيُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولَس، تَعْلُوهم نار الأنيار، يُسقَون من عُصارة أهل النار؛ طِينةِ الخَبال»؛ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
3- وهو من أسباب دخول الجنة.
قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
وأما المتكبر فإنه محروم من الجنة، ولو كان في قلبه القليل من كِبْرٍ؛ ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبْرٍ».
بل إن أبواب جهنم جميعها مُفتَّحة للمتكبرين؛ كما قال تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29]، وقال تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72]، ولم يأتِ البيان القرآنيُّ حول هذا الأمر لغيرهم.
الوقفة الثانية: صور من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان متواضعًا في كل شيء: في مِشيتِه، وفي مجلسه، وفي طعامه، وفي حياته كلها؛ وإليكم طرفًا من ذلك:
1- فأما تواضعه في مجلسه: فكان لا يختص بمكان عن جلسائه، ولا يتميز عن غيره من جلسائه، بل يجلس حيث حيثما انتهى به المجلس، وكان يكره أن يقوموا له ويمنع من ذلك.
دخل عليه أعرابيٌّ وهو جالس مع أصحابه، فقال: أيكم محمد؟ وهذا فيه دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يتميز عن غيره من جلسائه؛ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لم يكن شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «وكانوا إذا رأوه، لم يقوموا؛ لِما يعلمون من كراهته لذلك»؛ (رواه الترمذي، وغيره)، فجمعوا بين المحبة والاتباع؛ لأن المحبة تقتضي الاتباع؛ فهو القائل صلى الله عليه وسلم: «من سرَّه أن يتمثَّل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مَقْعَده من النار»، أما إذا كان من أهل الفضل فيجوز، وكذلك يجوز القيام للضيف ومقابلته ومعانقته، إذا كان قادمًا من سفر؛ لما جاء سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس رضي الله عنه ليحكم في بني قريظة، قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: «قوموا إلى سيِّدكم»، فيجوز لو كان من باب الاحترام.
والخلاصة كما قال ابن القيم رحمه الله: "فالمذموم القيام للرجل، وأما القيام إليه للتلقِّي إذا قدِم، فلا بأس به، وبهذا تجتمع الأحاديث".
2- وأما تواضعه مع الضَّعَفَةِ والمساكين: فكان يُجالسهم ويقبل دعوتهم ولو إلى أيسر الأشياء.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشهد الجنائز، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، وعليه إكاف من ليف))، والإكاف: ما يُوضَع على ظهر الدابة، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن امرأةً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له: «إن لي إليك حاجةً، فقال: اجلسي في أيِّ طريق المدينة شئتِ، أجلس إليكِ»، وفي البخاري: «كانت الأَمَةُ من إماء أهل المدينة لَتأخُذُ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت».
3- وأما تواضعه عند المدح والإطراء: فكان يَنهَى عن ذلك؛ ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُطْرُوني كما أطْرَتِ النصارى عيسى ابن مريم؛ إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبدُالله ورسوله»، ولا تطروني: لا تمدحوني، والمقصود: المبالغة في المدح.
4- وأما تواضعه في طعامه، وما يُدعَى إليه: فكان يقبل أقلَّ الطعام قيمة؛ في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدعى إلى خبز الشعير، والإهالة السنخة، فيُجيب، ولقد كان له درع عند يهودي، فما وجد ما يفُكُّها حتى مات))، خبز الشعير: أشد أنواع الخبز خشونة، والإهالة السنخة: الودك المتغير، شحم من الغنم إذا أُذِيب، وطالت مدته، يتغير طعمه، وهذا من تواضعه أنه يجيب الدعوة، ومن زهده أنه ما ملك شيئًا من الدنيا، بل مات ودرعه مرهون عند يهودي في طعام، وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أُهْدِيَ إليَّ كُرَاعٍ لقَبِلتُ، ولو دُعِيت عليه لأَجَبْتُ»؛ كراع: قدم الدابة، وهو من أقل الطعام قيمة وكُلْفَةً.
وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «آكُلُ كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد»، فكان يأكل بيده، ويَلْعَق أصابعه، ويَنهَى عن الأكل مُتَّكئًا صلى الله عليه وسلم.
5- وأما تواضعه في ركوبه: فقد ركِب الحمار وأردف عليه، وتارة يمشي على قدميه صلى الله عليه وسلم.
في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رَحْلٍ رثٍّ، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال: «اللهم اجعله حَجًّا لا رياء فيه، ولا سمعة»، على رحل رثٍّ: وهو ما يُوضَع على ظهر البعير للركوب عليه، وفي صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: ((جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس براكب بغل، ولا بِرْذَون))، بغل ولا برذون: بين الخيل والحمير، والمعنى: أنه جاء ماشيًا.
6- وأما تواضعه مع الصغار: فكان يُسلِّم عليهم، ويُداعبهم، ويُدخِل السرور عليهم؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على غلمان يلعبون فسلَّم عليهم))؛ (رواه أبو داود)، وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخ يُقال له: أبو عُمَيرٍ، وكان إذا جاء قال: يا أبا عُميرٍ، ما فعل النُّغَير))، قال أنس: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالصغار أنه كان يزور الأنصار، ويُسلِّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم، ويدعو لهم بالرزق والبركة، وعن يوسف بن عبدالله بن سلام قال: ((سمَّاني رسول الله يوسفَ، وأقعدني في حجره، ومسح على رأسي))؛ (رواه أحمد)، وهذا من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم.
7- وأما تواضعه في تعاملاته مع الناس: فكان أحسن الناس قضاءً وتعاملًا؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دَينًا كان عليه، فاشتدَّ عليه، حتى قال له: أُحرِّج عليك إلا قَضَيتني، فانتهره أصحابه، وقالوا: ويحك، تدري من تُكلِّم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلَّا مع صاحب الحق كُنتم» ؟ ثم أرسل إلى خولة بنت قيس، فقال لها: «إن كان عندك تمرٌ فأقْرِضِينا حتى يأتيَنا تمرنا فنقضيَكِ» ، فقالت: نعم، بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضتْهُ، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيتَ أوفى الله لك فقال: أولئك خِيارُ الناس، إنه لا قُدِّست أُمَّةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقَّه غيرَ مُتَعْتَعٍ))؛ ([رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه)، ومعنى غير مُتَعْتَعٍ: أي: دون مماطلة أو أن يصيبه أذًى يُقلقه ويزعجه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ((أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابته من هَيبَتِهِ رِعْدةٌ فقال صلى الله عليه وسلم: «هوِّن عليك؛ فإني لستُ بِمَلِكٍ، إنما أنا ابنُ امرأة من قريش تأكل القديد»، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم» ، قال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم، كنت أرعاها على قراريطَ لأهل مكة»؛ (رواه البخاري).
8- وأما تواضعه مع أهل بيته: فكان في مهنة أهله؛ ففي صحيح البخاري قيل لعائشة رضي الله عنها: ماذا كان يعمل رسول الله في بيته؟ قالت: ((كان بشرًا من البشر، يَفْلِي ثوبه، ويحلِب شاته، ويخدُم نفسه))؛ يفلي ثوبه: أي: يُفتِّشه ليلتقط ما علِق فيه من شوكٍ ونحوه.
كيف السبيل لخُلُق التواضع؟ وما هي الأمور الْمُعِينة على التواضع؟
1- تحقيق تقوى الله؛ لأنه هو المقياس عند الله تعالى.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]؛ قال المفسرون: "أي: جعلناكم شعوبًا وقبائل لتتعارفوا لا لتتفاخروا".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية - أي: نخوة الجاهلية - وفخرها بالآباء، فالناس مؤمن تقيٌّ، وفاجر شقيٌّ، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجال فخرَهم بأقوام، إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونُنَّ أهونَ عند الله من الجِعلان التي تدفع بأنفها النَّتن»؛ (رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه الألباني)، وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع، فقال: «يا أيها الناس، ألَا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألَا لا فضل لعربيٍّ على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمرَ على أسود، ولا أسودَ على أحمر، إلا بالتقوى».
2- التفكُّر في أصل خِلْقَةِ الإنسان، وأن أصل خَلْقِ الناس جميعًا واحد؛ فعَلامَ يتكبر العبد؟!
قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 5، 6]، وقال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 18، 19]، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 1، 2]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
فيا من تتكبر وتستعلي على الناس، يا من تحتقر الناس وتنتقصهم، ألَا تعلم حقيقتك؟! قال مالك بن دينار رحمه الله، للمهلب بن أبي صُفرة أحد قادة بني أُمَيَّة، عندما رآه في بعض الأيام مرتديًا ثوبًا من الخزِّ، ويسير بكبرياء في الطريق ويتبختر، فقال له: يا عبدَالله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال له المهلب: أمَا تعرفني؟ فقال له: بلى أعرفك، أوَّلُك نطفة مَذِرَة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العَذِرَةَ، فانكسر، وقال: الآن عرَفتني حقَّ المعرفة.
3- معرفة الإنسان قدره.
قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]؛ أي: ولا تمشِ في الأرض مختالًا متبخترًا، متمايلًا متكبرًا، إنك - أيها الإنسان - ضعيف، لن تخرق الأرض بشدة وطءِ قدميك، مهما بلغ وزنك، ولن يبلغ طولك طولَ الجبال، فتواضَعْ ولا تتكبر، واعرف قدر ضعفك وعجزك.
4- نسبة الفضل إلى الله تعالى.
كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 29]، يعلم المسلم أن ما عنده من خير ونِعَمٍ بأن الفضل فيه لله تعالى، ولولا توفيق الله تعالى له لَما حقَّق أي نعمة، خاصة أنه يعلم قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، فالإنسان لولا فضل الله عليه، لاتبع الشيطان؛ قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
5- معرفة خطورة الكِبْرِ وأنه يجُرُّ غيره من الأخلاق الذميمة.
فإن الكبر من مساوئ الأخلاق، ومن الخِصال القبيحة، ويجُرُّ غيره من الأخلاق الذميمة؛ فتجده لا يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ولا يوقِّر الكبير إذا كان أقلَّ منه منصبًا أو مالًا، ويغضب إذا ناديته باسمه مجردًا، لا يبدأ الناس بالسلام، بل وربما لا يرد عليهم إذا كانوا دونه، لا يقبل النصيحة، وتراه كثير الجدال وسريع الغضب، وكثير الاستهزاء بالآخرين والسخرية منهم، وكثير الوقوع في الغِيبة، ويترفَّع عن مجالسة الفقراء والضعفاء.
6- التفكُّر في أسباب الكِبْرِ وأنها كلها زائلة: المال، والجاه، والحسب، والنسب؛ فكل ذلك إلى زوال.
فأمل الجمال والقوة: فقليل من الشلل النصفي يُذهِب ذلك كله، أو بؤرة سرطانية على المخ يضيع معها كل شيء، فكل ذلك يضيع في لحظة واحدة، فلا تغترَّ.
وأما المنصب: فلو دام لغيرك ما وصل إليك، فانتبه.
وأما الصحة: ففي لحظة واحدة من الممكن أن يُصاب بشلل رباعي، أو جلطة دماغية، عافانا الله وإياكم.
وأما النسب: فإنه ينتهي يوم القيامة، ولا ينفعك بشيء؛ كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بَطَّأ به عمله، لم يُسرِع به نسبه».
7- التدريب على خُلُق التواضع.
وذلك بالجلوس مع الفقراء والمساكين والضعفاء، وليكن شعارك: لعلهم عند الله تعالى أفضل مني.
تجلس على الأرض، تحمل أغراضك بنفسك، تأكل طعامًا متواضعًا، وهكذا.
8- الاقتداء بسيد المتواضعين صلى الله عليه وسلم.
ومرَّ معنا طرف منها؛ فكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تُطروني كما أطْرَتِ النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبدُالله ورسوله»، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد»، وقال للرجل الذي أصابته منه هيبة: ( «(هوِّن عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد»، وكان صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله كما قالت عائشة رضي الله عنها.
نسأل الله العظيم أن يحسِّن أخلاقنا، وأن يجعلنا من عباده المتواضعين.
- التصنيف: