ذروة سنام الأخلاق

منذ 2024-10-10

من دلائل رحمته عليه الصلاة والسلام  سماحته،  سماحته التي دلت عليها رأفته عليه الصلاة والسلام ...


ايها الإخوة الكرام : وصف الله عز وجل النبي الأكرم والرسول الأعظم والزكي الزاكي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم وامتن به علينا فقال: {﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾}

 أكاد أجزم يقيناً بأن الحديث الذي لا نشبع منه ولا نكل منه ولا نمل، بل والذي نتعبد به إلى الله تعالى هو الحديث الذي يأتي على ذكر نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلّم.. خاتم النبيين وإمام المرسلين ورحمة الله تعالى للعالمين.. 

إن ذهبنا نتحدث عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم فإننا سنخوض في بحر لا ساحل له،  ولم لا وقد خاطبه ربه فقال {﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾}  حسبنا في يوم كيومنا هذا ان نقف مع دلالة واحدة من دلائل كرم أخلاقه وسعة رحمته صلى الله عليه وسلم التي شملت وعمت الناس أجمعين قبل ان يُبعث نبياً وبعد أن بُعث عليه الصلاة والسلام يصل الرحم ويقري الضيف ويُكْسب المعدوم ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق.. 

من دلائل رحمته عليه الصلاة والسلام  سماحته،  سماحته التي دلت عليها رأفته عليه الصلاة والسلام 
اخرج البخاري عن انس قال ««قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ ليسَ له خادِمٌ، فأخَذَ أبو طَلْحَةَ بيَدِي، فانْطَلَقَ بي إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ أنَسًا غُلامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ، قالَ: فَخَدَمْتُهُ في السَّفَرِ والحَضَرِ، ما قالَ لي لِشَيءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هذا هَكَذا؟ ولا لِشَيءٍ لَمْ أصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هذا هَكَذا؟» »

دل على سماحته رفقه عليه الصلاة والسلام  بالجاهل الجلف غليظ القلب .. 
ورد في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام «« رأْسُ الكُفْرِ نَحْوَ المَشْرِقِ، والفَخْرُ والخُيَلاءُ في أهْلِ الخَيْلِ والإِبِلِ والفَدَّادِينَ أهْلِ الوَبَرِ، والسَّكِينَةُ في أهْلِ الغَنَمِ » »

ايها الإخوة الكرام:
إن من المسلمات والبدهيات: أن الإنسان كما يؤثر في البيئة التي يعيش فيها بالسلب او بالإيجاب،  هو أيضاً يتأثر بالبيئة يتأثر طبعه وسلوكه بالسلب أيضاً أو بالإيجاب فليس من يسكن المدن كمن يسكن القرى ،  وليس من يسكن البدو كمن يسكن الحضر، الطباع والأخلاق تتباين من هنا وهناك.. 
حتى الطعام الذي يأكله الإنسان يؤثر في طباعه واخلاقه فمن ياكل اللحم ليس كمن يأكل النبات فالإنسان كما يؤثر هو أيضاً يتأثر وخذوا على ذلك مثالاً: 
«جاء أعرابى إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَيَسْتَعِينَهُ في شيءٍ قال عِكْرِمَةُ : أَرَاهُ قال : في دَمٍ ( أي في سداد دية قتيل )  قال : فَأعطاهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شيئًا، ثُمَّ قال النبي للأعرابي : أتُراني أَحْسَنْتُ إليكَ ؟ قال الأَعْرَابِيُّ : لا والله ما أحسنت ولا أَجْمَلْتَ. فَغَضِبَ بَعْضُ المسلمينَ، وهَمُّوا أنْ يَقُومُوا إليهِ، فأشارَ رسولُ اللهِ إليهِم : أنْ كُفُّوا عنه . فلمَّا قامَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وبَلَغَ إلى منزلِه، دعا الأَعْرَابِيَّ إلى البيتِ، فقال لهُ : إِنَّكَ جِئْتَنا فَسَأَلْتَنا فَأَعْطَيْناكَ، فقُلْتَ ما قُلْتَ. فَزَادَهُ رسولُ اللهِ شيئًا، وقال : أَحْسَنْتُ إليكَ ؟ فقال الأَعْرَابِيُّ : نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللهُ من أهلِ عشيرةٍ خيرًا» .. 

(وحتى لا يكون في النفس شيء بسبب صنيع ذلك الأعرابي): 
«قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : إِنَّكَ جِئْتَنا تسَأَلْتَنا فَأَعْطَيْناكَ، فقُلْتَ ما قُلْتَ، وفي أنْفُسِ أَصْحابي عليكَ من ذلكَ شيءٌ، فإذا جِئْتَ فقلْ بين أَيْدِيهِمْ ما قُلْتَ بين يَدِي،حَتَّى يَذْهَبَ عن صُدُورِهِمْ. قال : نَعَمْ. فلمَّا جاء الأَعْرَابِيُّ قال النبي عليه الصلاة والسلام : إِنَّ صاحبَكُمْ كان جاءنا فَسألَنا فَأَعْطَيْناهُ، فقال ما قال، وإنَّا قد دَعَوْناهُ فَأَعْطَيْناهُ فَزعمَ أنَّهُ قد رضيَ، كذلكَ يا أعرابِيُّ ؟ قال الأعرابِيُّ : نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللهُ من أهلِ عشيرةٍ خيرًا يا رسول الله..  (عند ذلك) قال النبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : إِنَّ مَثَلِي ومَثَلَ هذا الأَعْرَابِيِّ كَمَثَلِ رجلٍ كانَتْ لهُ ناقَةٌ، فَشَرَدَتْ عليهِ، فَاتَّبَعَها الناسُ فلمْ يزيدُوها إلَّا نُفُورًا، فقال لهُمْ صاحِبُ النَّاقَةِ : خَلَّوْا بَيْنِي وبينَ ناقَتِي، فَأنا أَرْفَقُ بِها، وأعلمُ بِها. فَتَوَجَّهَ إليها وأخذَ لها من قتامِ الأرضِ، ودعاها حتى جاءتْ واسْتَجَابَتْ، وشَدَّ عليْها رَحْلَها وإنَّهُ لَوْ أطعتُكُمْ حيثُ قال ما قال لدخلَ النارَ)  » . 

اعلى وأرقي الأخلاق تراها في يوميات الحبيب النبي محمد صلى الله عليه وسلّم،  أرفع درجة من درجات الصفاء النفسي تراها في سيرته وفي سنته عليه الصلاة والسلام.. 

كانَ لِرَجُلٍ من الانصار علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَيْنٌ ( وهذا الدين كان جملاً) اخذه النبي منه ( جملاً معلوماً إلى أجل معلوم) وجاء ذلك الأنصاري يتقاضى جملا مثل جمله من النبي عليه وسلّم 
فرفع صوته وأغلظ في القول بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام فَهَمَّ به أصْحَابُهُ، فَقالَ النبي : « دَعُوهُ؛ فإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، وقالَ: اشْتَرُوا له سِنًّا، فأعْطُوهَا إيَّاهُ، فَقالوا: إنَّا لا نَجِدُ سِنًّا إلَّا سِنًّا هي أفْضَلُ مِن سِنِّهِ، قالَ: فَاشْتَرُوهَا، فأعْطُوهَا إيَّاهُ؛ فإنَّ مِن خَيْرِكُمْ أحْسَنَكُمْ قَضَاءً» .

هو سمح صلى الله عليه وسلّم إذا باع،  سمح إذا اشترى،  سمح إذا قضى ما عليه،  سمح في بيته بين زوجه وولده،  سمح إذا عامل صديقاً وسمح إذا عامل عدوا.. 
يوقر الكبير،  ويرحم الصغير،  ويشفق على الضعيف،  ويعلم الجاهل،  ويقوم المعوج بحكمته وسماحته عليه الصلاة والسلام 
يأتيه في يوم من الأيام صحابي جليل يقال له ابو ذر الغفاري يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم محزونا أنْ ولَّى رسول الله بعض أصحابه واستعملهم على الأمصار ولم يُولٌّ أبا ذر شيئًا ولم يستعملْه هنا أو هناك يقول أبو ذر رضي الله عنه فقلتُ: يا رَسولَ اللهِ استعملت فلاناً وفلاناً أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ 
قالَ ابو ذر : فَضَرَبَ رسول الله بيَدِهِ علَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قالَ: «يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمَانَةُ، وإنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَن أَخَذَهَا بحَقِّهَا، وَأَدَّى الذي عليه فِيهَا» .

اما قوله صلى الله عليه وسلّم « يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ» فسببها ان ابا ذر عنده رافة ورحمة ورقة أكثر من اللازم..  وسياسة الناس تحتاج إلى الرحمة مع الحزم ،  سياسة الناس تفتقر مع الرأفة إلى شدة حكيمة عاقلة.. 

رد النبي عليه الصلاة والسلام صاحبه الذي اتاه محزوناً وقد بدد حزنه، وجبر خاطره، وأظهر له أنه ما ولّاهُ كما ولّى غيره رحمة به وشفقة عليه وأن ولاية أمور الناس تكليفٌ وليست تشريفٌ.. 

« « ضَرَبَ رسول الله بيَدِهِ علَى مَنْكِبِيّ ابي ذر ، ثُمَّ قالَ: يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمَانَةُ، وإنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَن أَخَذَهَا بحَقِّهَا، وَأَدَّى الذي عليه فِيهَا» .

ان تكون سمحاً انت على خلق كريم من اخلاق الإسلام،  ان تكون سمحاً هذا يدل على رجاحة العقل وسمو النفس وسعة الصدر صفة قدوتنا وأسوتنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم.. 

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم ان يجعل حظنا من سماحة النفس ومخاسن الأخلاق النصيب الأوفر إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير 

الخطبة الثانية 
بقي لنا في ختام الحديث عن ذروة سنام الأخلاق وهي سماحة النفس بقي لنا أن نقول:  
ورد في صحيح الجامع من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو  : ان النبي صلى الله عليه وسلّم قال:  (فيما معناه أنه) حوسب رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيراً قط،  فقيل له:  اي فلان هل عملت خيراً  ؟ 
قال:  لا والله يا رب ما عملت خيراً قط.. 
فقيل له:  تذكر فلعلك عملت خيراً ونسيته.. 
قال النبي عليه الصلاة والسلام فلما تذكر تذكر فقال: « إني ما عملت خيراً قط إلا أن الله خولني مالاً كثيراً فكنت أداين الناس.. وكنت اقول لغلامي يا غلام خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا يوم القيامة.. فقال الله عز وجل نحن أولى بذلك منك يا ملائكتي تجاوزوا عن عبدي» ». 

هذا الأثر ورد في صحيح السنة وله أيضاً شواهد كثيرة تقول مثل ما يقول وزيادة.. 
هذا الحديث من الإسرائيليات المقبولة ورد فيما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام وكل حديث فيه ذكر أحد ممن كان قبلنا فهو مما ورد عن بني إسرائيل وإن كان صحيحاً كان مقبولاً.. 

هذا الحديث يدل على أن هذا الرجل الذي كان يداين الناس وينظر المعسر ويتجاوز هذا الحديث يدل على أنه كان رجلاً سمحاً.. 
هو ليس سفيهاً،  هو ليس مغفلاً هو لا يفرط في حقه،  ولا يضيع ماله لكنه يجعل من ماله شيئا لله تعالى،  يتاجر ببعض ماله مع الله تعالى والله تعالى يقول {﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُۜطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾}

من دلالات هذه الآية أن الإنسان السمح يعطيه الله اكثر مما أخذ منه  ويغفر الله تعالى ذنبه ويتجاوز عنه بل إن الله تعالى يتغمده بواسع رحمته، وإذا كان يوم القيامة اظله الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.. 

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم ان يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها  إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.