كنتم خير أمة

منذ 2024-10-15

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوةِ إلى الخير.

{بسم الله الرحمن الرحيم }

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) }

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوةِ إلى الخير.

أو يتنزل هذا منزلة التعليل لأمرهم بالدعوة إلى الخير وما بعده في قوله تعالى:  {{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}} [آل عمران:104]

كنتم من «كان» الناقصةِ التي تدل على تحقق شيءٍ بصفة في الزمان الماضي من غير دَلالةٍ على عدم سابقٍ أو لاحق، أي لا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك: "كان زيد قائماً"، بل المراد دوام النسبة كما في قوله تعالى: {{وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً}} [الساء:96] {{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}} [الإسراء:32] أي تدل على الدوام ومرادفه: "لم يزل".

وقيل: كنتم كذلك في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم السالفةِ أي فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم، وقيل: معناه «أنتم خيرُ أمة».

قال في زهرة التفاسير: «كان» يصح أن تكون بمعنى وُجِد، أي: "وجدتم خير أمة" لهذه الأوصاف ما تحققت فيكم، ويصح أن تكون ناقصة، ويكون المعنى قدرتم في علم الله تعالى خير أمة إن قمتم بهذه الأمور، ويصح أن تكون بمعنى صار، أي تحولتم معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة أخرجت للناس بسبب الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

{{أُخْرِجَتْ}} أُظهِرَت وأبرزت كقوله تعالى: {{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ}} [طه:88] أي أظهر بصوغه عجلا جسدا.

{{لِلنَّاسِ}} لهداية الناس ونفعهم، والمراد بالناس جميع البشر من أول الخليقة.

 ومخرجها هو الله تعالى، وحُذف للعلم به، وقيل: خير أمةٍ أي كنتم خيرَ الناسِ للناس، فهو صريحٌ في أن الخيريةَ بمعنى النفعِ للناس وإن فُهم ذلك من الإخراج لهم أيضاً أي أخرجَتْ لأجلهم ومصلحتِهم.

روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: {{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}} قَالَ: "خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ".

وقال قتادة: "هم أمةُ محمدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُؤمر نبيٌّ قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفارَ فيدخلونهم في الإسلام فهم خيرُ أمةٍ للناس".

وروى الترمذي عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}} [آل عمران: 110] قَالَ: «(أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ)» هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

قال ابن كثير: "وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل.

فالعمل على منهاجه وسبيله، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه، كما روى الإمام أحمد: عن محمد بن علي -وهو ابن الحنفية- أنه سمع علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يقول: «قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ). فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ)» .  [تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن] .

وروى أحمد عن شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ: «مَرِضَ ثَوْبَانُ بِحِمْصَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ قُرْطٍ الْأَزْدِيُّ، فَلَمْ يَعُدْهُ فَدَخَلَ عَلَى ثَوْبَانَ رَجُلٌ مِنَ الْكَلَاعِيِّينَ عَائِدًا. فَقَالَ لَهُ ثَوْبَانُ: أَتَكْتُبُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: اكْتُبْ. فَكَتَبَ لِلْأَمِيرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطٍ مِنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لِمُوسَى وعِيسَى مَوْلًى بِحَضْرَتِكَ لَعُدْتَهُ. ثُمَّ طَوَى الْكِتَابَ وَقَالَ لَهُ: أَتُبَلِّغُهُ إِيَّاهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ بِكِتَابِهِ فَدَفَعَهُ إِلَى ابْنِ قُرْطٍ، فَلَمَّا قَرَأَهُ قَامَ فَزِعًا فَقَالَ النَّاسُ: مَا شَأْنُهُ أَحَدَثَ أَمْرٌ، فَأَتَى ثَوْبَانَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَعَادَهُ وَجَلَسَ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَ فَأَخَذَ ثَوْبَانُ بِرِدَائِهِ وَقَالَ: اجْلِسْ حَتَّى أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا) [صحيح] عبد الله بن قرط الأزدي: صحابي، أمَّره أبو عبيدة على حمص فلم يزل عليها حتى توفي أبو عبيدة، وقيل: إنه كان من قِبَل معاوية. استشهد بأرض الروم سنة (56)»

وروى مسلم عن حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ «كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ أَنَا ثُمَّ قُلْتُ أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنِّي لُدِغْتُ قَالَ فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ اسْتَرْقَيْتُ قَالَ فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ قُلْتُ حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ وَمَا حَدَّثَكُمْ الشَّعْبِيُّ قُلْتُ حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا رُقْيَةَ [أي لا رقية أولى وأنفع] إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ [هي سم العقرب وشبهها] فَقَالَ قَدْ أَحْسَنَ مَنْ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي فَقِيلَ لِي هَذَا مُوسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَوْمُهُ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ) ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟) فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: (هُمْ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ: (أَنْتَ مِنْهُمْ) ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ: (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)»

وروى مسلم  عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) قَالَ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ: (أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) قَالَ فَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ: (إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ مَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ)» .

وفي صحيح ابن حبان عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا)» [صحيح]

فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: {{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}} فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم، كما قال قتادة: بَلَغَنَا أن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في حجة حجّها رأى من الناس سُرْعة  فقرأ هذه الآية: {{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} } ثم قال: من سَرَّه أن يكون من تلك الأمة فَلْيؤدّ شَرْط الله فيها. [رواه ابن جرير].

وقال مجاهد: {{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}} على الشرائط المذكورة في الآية.

وعلى قول مجاهد: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.

وقيل: إنما صارت أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى.

ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: { {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}} [المائدة:79] ولهذا لما مَدح الله تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم.

{{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}} استئنافٌ مبينٌ لكونهم خيرَ أمة.. وصيغةُ المضارع للدِلالة على الاستمرار.. وخطابُ المشافهةِ وإن كان خاصاً بمن شاهد الوحيَ من المؤمنين لكن حُكمَه عامٌ لكل الأمة.

ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمة أنه لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة، فمن التغيير على الأهل والولد إلى التغيير على جميع أهل البلد، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمة أوجب فضيلة لجميع الأمة، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائفها، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأن ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى.

{{وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}} أي إيماناً متعلقاً بكل ما يجب أن يؤمَنَ به من رسول وكتابٍ وحساب وجزاءٍ.. وإنما لم يصرِّح به تفضيلاً لظهور أنه الذي يؤمِن به المؤمنون، وللإيذان بأنه هو الإيمانُ بالله تعالى حقيقةً وأن ما خلا عن شيء من ذلك كإيمان أهلِ الكتابِ ليس من الإيمان بالله تعالى في شيء، كما قال تعالى: {{وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً}} [النساء:150-151].. فجعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله، لأن مَن آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله.

وإنما أُخِّر الإيمان وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجوداً ورُتبةً، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم، وأن إيمانهم ثابت محقق من قبل فليس هو المؤثر لحصول هذه الزيادة، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر والنهي. وليقترن به قوله تعالى بعده: {{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم}} .

وإنما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفصيل على الأمم، لأن لكل من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثرا في التفضيل على بعض الفرق، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته، وقد رد الله ذلك صريحا في قوله: {{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}} [التوبة:19] وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قصد به التفضيل على أهل الكتاب، الذين أضاعوا ذلك بينهم، وقد قال تعالى فيهم: {{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}} [المائدة:79].

ولم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما لأنه لم يكن واجبا عليهم، أو لأنهم كانوا يتوسعون في حال التقية، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرأى منه ومسمع فلم يغير عليهم، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله: {{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}} [طه:92-94]

قال في زهرة التفاسير: وهنا قد يسأل سائل: لماذا قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان؟ ولماذا اقتصر في الإيمان على الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالرسل والملائكة واليوم الآخر والحساب والعقاب وغير ذلك مما يوجبه الإيمان، ولا يعد الشخص مؤمنا إلا به؟

ويجاب عن السؤال الأول: بأن ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدما لبيان أنه مطلوب لذاته، وأنه فضيلة لَا تختلف فيها الأمم ولا الجماعات، فهو كالصدق والعدل والحق تتفق عليها الأفهام، بل ولا يمكن أن يتحقق بنيان جماعة من غير تحققه، وإلا كانت كالذئاب الضارية، أو كانت كالوحوش في الغابة، والإيمان سياج الجماعة وحمايتها من أن تضل، وكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يقوم به بناء الجماعة، والإيمان هو الذي يحميها ويسدد خطاها، فذكر ما يقوم به البناء ثم ذكر ما يكون به ذلك البناء في دائرة الفضيلة والأخلاق الكريمة وهو الإيمان، وفي الحقيقة هما متلازمان، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق يتبعه إيمان الشذاذ الخارجين، والإيمان الحق بالله تعالى والإذعان لأوامره ونواهيه يتبعه حتما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما لماذا اقتصر على ذكر الإيمان بالله؟ فهو لأن الإيمان بالله هو لب الإيمان بكل أجزائه وعناصره، فالإيمان بالله هو الإذعان المطلق لقوة غيبية تسيّر هذا الكون وتدبره، وتقوم على كلاءته وحمايته، والإيمان بقوة غيبية يقتضي الإيمان برسالتها للناس، ويقتضي الإيمان بالأرواح الطاهرة المطهرة من الملائكة، والإيمان بأن الله لم يخلق هذه الأشياء عبثا، وإن ذلك يقتضي الإيمان بقدرة الله على الإعادة كما بدأ الخلق بالتكوين، وبأن هنالك يوما آخر فيه الحساب، وإن من يؤمن بالله ولا يؤمن بهذه العناصر كلها لَا يكون مؤمنا بالله حق الإيمان، ولا مذعنا لأحكامه حق الإذعان، ولذا كان أهل الكتاب الذين أعلنوا إيمانهم بالله، وأنكروا رسالة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع قيام البينات عليها غير مؤمنين، وغير مذعنين للحق الذي ارتضاه الله.

إذن فهذه الخيرية التي قدرها سبحانه لهذه الأمة منوطة بتحقيق أمرين أحدهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني: الإيمان المطلق بالله والإذعان له وتفويض الأمور إليه بعد الأخذ في الأسباب، واعتقاد أنه لَا قوة في هذا الوجود غير قوته، ولا معبود بحق سواه، ولا خضوع لأحد كائنا من كان غيره تعالت قدرته، فليست الخيرية التي خاطب الله بها المهاجرين والأنصار والذين يتبعونهم؛ لأنهم مسلمون فقط، أو لأشخاصهم وذواتهم، بل لأنهم متصفون بأوصاف هي علة هذه الخيرية، ومناط تلك الرفعة الإلهية، وتلك الأوصاف هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى.

ولذلك لَا ينطبق الحكم بالخيرية على من لَا يتصف بهذه الصفات، فالجماعات التي تهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يكون فيها إيمان، لَا يمكن أن تكون خير أمة، بل لا توصف بالخيرية قط؛ لأنه لَا خير إلا في الفضائل والحق والعدل، ولا تقوم هذه الأمور إلا بالإيمان وقيام رأى عام مُهذِّب لائم يقوم المعوج، وتنزوي فيه الرذائل انزواء، إذ يقتلها نوره المشرق وشمس الحقيقة الناصعة.

{{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ}} أي لو آمن عامتهم وسائرهم كإيمانكم إيمانا تاما لكان ذلك خيراً لهم مما هم عليه من الرياسة واستتباعِ العوامِّ، فلهم في هذا حظ دنيوي.

{{لَكَانَ خَيْراً لَّهُم}} لأن إيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام ولازدادت رياستُهم وتمتُّعهم بالحظوظ الدنيويةِ، والحظ الأخروي الجزيل بالفوز بما وُعِدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين.

كما روى البخاري في صحيحه، قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ)

وقيل: لكان خيرا لهم مما هم فيه من الكفر، فالخيريةُ إنما هي باعتبار زعمِهم، وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم.

وإنما لم يتعرَّضْ للمؤمَنِ به أصلاً للإشعار بظهور أنه الذي يُطلق عليه اسمُ الإيمانِ لا يذهب الوهمُ إلى غيره ولو فُصِّل المؤمَنُ به هاهنا أو فيما قبلُ لربما فُهم أن لأهل الكتاب أيضاً إيماناً في الجملة لكن إيمانَ المؤمنين خيرٌ منه وهيهاتَ ذلك.

وقال ابن عاشور: ولم يذكر متعلق آمن هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة «الذين آمنوا» على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة، وهذا كقولهم أسلم، وصبأ، وأشرك، وألحد، دون ذكر متعلقات لهاته الأفعال لأن المراد أنه أتصف بهذه الصفات التي صارت أعلاما على أديان معروفة، فالفعل نزل منزلة اللازم.

و «لو» هنا هي التي يقول عنها علماء النحو: إنها حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الخير فيهم لأنفسهم لامتناع الإيمان الكامل، وقد ذكر نفي الإيمان عنهم مطلقا مع أنهم يقولون إنهم يؤمنون بالله، ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، وذلك لأنهم إذ لم يذعنوا لأحكام الله تعالى وأوامره -وقد فسروها على حسب أهوائهم ومنازعهم العصبية والجنسية، واعتقادهم أنهم شعب الله المختار- قد فقدوا الإيمان، إذ الإيمان كل لَا يقبل التجزئة، فليس بمؤمن بالله من يكذب رسالة الله التي جاءت بها البينات، وقامت عليها الدلائل؛ وفي نفي الإيمان نفيا مطلقا ما يومئ إلى أن الذين يجعلون هواهم مسيرا لاعتقادهم وفكرهم لَا يؤمنون بحقيقة من الحقائق إلهية كانت أو إنسانية.

وقد نفَى سبحانه عنهم الإيمان بأي شيء، ولذلك لم يكن ثمة حاجة بعد هذا إلى نفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك يقتضي الإيمان بالفضائل والمعاني الإنسانية، وهم لَا يؤمنون بشيء منها، وإن ذلك ليس خيرا لهم في شيء؛ لأنهم بذلك تنحل جماعتهم، وتتفرق وحدتهم.

{{مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ}} جملةٌ مستأنفة سيقت جواباً عما نشأ من الشرطية الدالةِ على انتفاء الخيريةِ لانتفاء الإيمانِ عنهم كأنه قيل: هل منهم من آمن أو كلُّهم على الكفر؟ فقيل: منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد اللَّه بن سلام وأصحابه .

{{وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}} المتمرِّدون في الكفر الخارجون عن الحدود.

واللام في {المؤمنون} وفي {الفاسقون} يدل على المبالغة والكمال في الوصفين

والمؤمن هو المذعن للحق إذا قامت بيناته أو دلت أماراته، وهو ينشأ عن استقامة القلب، والتزام الجادة، والاتجاه دائما إلى الطريق المستقيم بإخلاص ونزاهة نفس عن الهوى، ولذلك كان غير المؤمن خارجا عن الاستقامة، ولذا يسمى فاسقا، باعتباره خرج عن منهاج الاستقامة، وترك طريق الحق، وسلك سبل الشيطان، ويسمى كافرا باعتباره جحد الحق، وستر ينابيع الإدراك في نفسه، وناسب أن يذكر وصف الفسق بالنسبة لغير المؤمنين من أهل الكتاب، لأنهم خرجوا عن منهاج الكتاب المنزل، وفسقوا عن أمر ربهم وتركوه وراءهم ظهريا.

 

يقول الأستاذ محمد قطب -رحمه الله-:

ونقف قليلا عند قضية «الخيرية» التي وصف الله بها هذه الأمة.

ما الفرق بينها وبين دعوى اليهود أنهم شعب الله المختار إلى هذه اللحظة، ودعوى كل قومية أنها أفضل الأمم جميعا وأرقاها؟

هناك عدة فوارق، تنطلق كلها من فارق أساسي: أن خيرية هذه الأمة ليست خيرية عنصرية ولا عرقية كدعوى بني إسرائيل، وليست منبثقة من عصبية جنس ولا انتماء لأرض معينة كعصبية القومية الحمقاء.

إنها خيرية أعمال.. خيرية مبادئ.. خيرية قيم.. خيرية سلوك، ناشئة من الإيمان بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك فهي ليست حكرا على شعب معين ولا عنصر معين ولا دم معين، إنما هي ملك لكل مسلم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وعمل بمقتضى إيمانه، أيا كان جنسه أو لغته أو أرضه أو منشئوه، كما كانت ملكا لبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، على المستوى نفسه الذي كانت فيه ملكا للمؤمنين من قريش، وإنما يتفاضل الناس فيما بينهم بالتقوى: «(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)» [رواه أحمد]

ولذلك أيضا لم تكن صفة لاصقة بشخص معين ولا شعب معين ولا عنصر معين، مهما يعمل من السيئات، ومهما يقع منه انحرافات، كدعوى بني إسرائيل أنهم ما زالوا شعب الله المختار، وقد كفروا بالله ورسله، وارتكبوا من الموبقات ما ارتكبوا، وكدعوى كل قومية أنها أفضل الأمم، مهما ارتكبت من الجرائم، ومارست من الحماقات. بل تذهب الخيرية عن الأمة –كما هو حال الأمة المسلمة اليوم– إن هي نكلت عن رسالتها ولم تقم بتكاليفها، ولا تسترد استحقاقها لها حتى تعود إلى العمل بمقتضياتها.

تلك هي الفوارق..

فهي ليست «عصبية» لقوم ولا لجنس ولا لأرض ولا لشعار..

(لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ) [رواه أبو داود]

وليست كذلك دعوى بلا دليل. إنما هي قيم ومبادئ، وعمل وسلوك، إن وجدت، وجدت معها الخيرية، وإن زالت، زالت الخيرية، وإن بقي الناس الذين يحملون أسماء إسلامية، ويقولون بأفواههم لا إله إلا الله، محمد رسول الله!

وما أعظم الفارق في واقع الأرض، وعند الله في اليوم الآخر، بين دعوى لا تحمل رصيدا من الحق، ودعوى تحمل الرصيد: {{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً  * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}} [النساء:123-124]

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز