شمولية الرؤية وأثرها في وحدة الصف

منذ 2012-02-01

إن شدة الاقتراب مِن صورة على الحائط قد تمنحك القدرة على رؤية أدق لتفاصيلها، ولكنها تمنعك مِن رؤيتها كاملة، وكلما ابتعدتَ؛ وجدت نفسك أقدر على الإحاطة بجوانبها حتى تكتمل في عينيك نظرة الطائر المحيطة بالمدينة التي يحلق فوقها.


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن شدة الاقتراب مِن صورة على الحائط قد تمنحك القدرة على رؤية أدق لتفاصيلها، ولكنها تمنعك مِن رؤيتها كاملة، وكلما ابتعدتَ؛ وجدت نفسك أقدر على الإحاطة بجوانبها حتى تكتمل في عينيك نظرة الطائر المحيطة بالمدينة التي يحلق فوقها.

بعض الناس يؤثِر البقاء أمام الصورة؛ ليدقق فيها، وبعضهم يؤثر الابتعاد عنها؛ ليحيط بها، ولكن لا يكتمل إدراك المرء لما تحويه؛ إلا بأن يجمع بيْن الأمرين، فهو يقترب ويبتعد، ويعاود ذلك حتى يحيط بجوانب الصورة: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]، ويدرك لطائفها: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].

ومَن يؤثر عدم الاقتراب مِن الصورة والتدقيق فيها؛ يعجبه اختزال ما حوله مِن ظواهر وأحداث في ثنائيات متناقضة يجدها تريحه مِن عناء التفكير والتدقيق، ومِن تلك الثنائيات في العمل الإسلامي: ثنائية الإخوان والسلفيين، التي يحب البعض اختزال كثير مِن عناصر المشهد الإسلامي فيها.

هناك مثلاً مَن يزعم أن السلفيين تواطئوا مع أنظمة الحكم القمعية، وأسهموا في تثبيط همم الناس تجاه الثورات الشعبية المباركة إن شاء الله التي رفعت عن كاهل بعض الشعوب المسلمة طغيان أنظمة جائرة حاربت الدين، وقمعت الحريات، وباعت البلاد، وآذت العباد!
إن هذا الزعم يهمل أن السلفيين هم مَن تصدر قائمة المدافعين عن بلاد المسلمين في مواطن شتى.. كما في العراق مثلاً!
ويهمل كذلك أن الجماعات الجهادية التي نراها جاوزت الحد في كثير مِن أفكارها وأعمالها أن كثيرًا مِن أبنائها سلفيو المعتقد، وما زال السلفيون في شتى البقاع يلاقون العنت بسب تلك النسبة.

وبالرجوع إلى التجربة المصرية، فإن السلفيين لم يتفقوا على كلمة واحدة، بل رأينا مِن أعيانهم مَن خرجوا إلى "ميدان التحرير" مشاركين في التظاهرات، حتى الذين توجه إليهم أصابع الاتهام بأعيانهم، أكثرهم ليسوا إلا نزلاء معتقلات تلك النظم الجائرة بالأمس القريب، ومِن أوفر الناس حظًا بقمعها وبطشها.

أيسوغ في العقل أن يُنسى ذلك كله، فيتحول رفاق الطريق، وجيران الزنازين في ظننا إلى أدوات للطاغوت ومثبطين؟!

وذلك في الوقت الذي نشيد فيه بكل مَن خرج للتظاهر مِن أصحاب كل مشرب وسبيل، وممن لا سابقة لهم ولا قدم صدق في الدفاع عن الدين.

وعلى الجانب الآخر: هناك مَن يزعم أن الإخوان أصحاب مطامع يبيعون المبادئ مِن أجلها، ويستدلون على ذلك بما كان مِن مشاركتهم في العمل السياسي بالعراق بعد الاحتلال، ومِن قبل بأفغانستان، ويهمل هذا الزعم تاريخًا مِن حسن البلاء في سبيل الله، والمسارعة إلى الفداء، وذلك مِن حرب ثمانية وأربعين، بل ومِن قبلها.

وما زالت معاناتهم مستمرة مع الأنظمة الجائرة، حتى ليسوغ أن يقال: إنه لا تُعرف جماعة أخرى كانت أعظم منهم تضحية في التاريخ الحديث، أليس مِن الإنصاف رد الناس إلى معهودهم؟ بل كان سيد الناس، كما ذكر ابن حجر رحمه الله يرد العجماوات إلى معهودها، فقد روى البخاري أنه لما قال له الصحابة: "خَلأَتْ الْقَصْوَاءُ"؛ أجابهم قائلاً: «مَا خَلأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ».

إن كثيرًا مِن الحقائق يبدو أنها تغيب عن هؤلاء وأولئك: مِن الطاعنين، ومِن المنحازين لفريق ضد الآخر، ومنها: أن المقارنة أصلاً تنطوي على قدر مِن اللبس، ولا تصح مِن كل وجه كون السلفيين بخلاف الإخوان يجمعهم توجه عقدي منهجي، وليسوا جماعة واحدة وإن كانت لهم تجمعات، ولكنها مِن الكثرة بمكان، وكذلك الاختلاف بحيث يصعب نسبة قول إليهم، فهناك السلفية الجهادية، والإصلاحية، والسياسية، والعلمية، أو التقليدية، وهناك المتمذهب والرافض لذلك.

وكذلك المباشر للعمل الجماعي والرافض له، وكل تجمع مِن هذه التجمعات تحته فصائل تختلف في طرحها، بل وفي نظرتها لكثير مِن أمور الواقع المعاصر، إن هذا لا يعني أنه لا وجود لتيار سلفي له معالمه، فإنني مِن أبناء هذا التيار وممن تربى في محاضنه على معانٍ ما زلت بها سعيدًا، وفي حصونها آمنًا.

ولكن الإنصاف للمعاني العظيمة التي تحويها هذه النسبة الشريفة إلى السلف يقتضي ربطها بأصول واضحة غير ملتبسة، أراها باختصار: الاقتصار في باب الاعتقاد: على نصوص الوحي ونبذ الكلام؛ وفي مسائل الفقه: تعظيم السنة، وترك التعصب سواء تمذهب المرء أو لم يفعل؛ وفي أعمال القلوب وتزكية النفوس: متابعة طريقة الرسول، مع نبذ للبدعة والخرافة.

ولعله يكون مِن توضيح المشهد هنا -لا إرباكه- أن نبيِّن أن كثيرًا مِن الإخوان سينطبق عليهم بكل استحقاق وصف السلفية بهذا المفهوم، والأمر كذلك في كثير مِن المنتسبين إلى جماعات أخرى.

ومما يغيب أيضًا عن كثير مِن الناس هو: إمكان وقوع الخلاف في الرؤى بيْن السائرين على طريق واحدة حول أفضل السبل لقطع المرحلة القادمة.

إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا فيما بينهم، وهم خير أجيال خير الأمم، ألا يمكن أن يكون الإخوان في العراق قد رأوا أن مصلحة الدين والبلاد إنما تتحقق بمشاركتهم في العمل السياسي؟ ألم ينقل ابن القيم رحمه الله مُقرًا مقولة ابن عقيل رحمه الله: "السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد"؟!

هل المرء في مثل هذه المضايق يختار بين خير وشر، أم شرّين يدفع أعظمهما باحتمال الأدنى؟

أليس ممكنًا أن نقول قريبًا مِن ذلك عن ترك تلك الطوائف مِن السلفيين للتظاهر؟ ألا يمكن الاعتذار لهم بأن الأمر لم يكن قد عرف الداعي إليه ولا سبيل إلى استشراف عواقبه، وقد ينتهي دون تحقيق المراد، فيعود كل واحد إلى سربه، ثم يبطش بالإسلاميين، ألم يكن على قادتهم أن ينصحوا لمن معهم، ولا يغرروا بهم؟ أقول ذلك وإن كنت مع كوني مِن أبناء هذه الدعوة لم أر رأيهم، بل شرح الله صدري لما انشرحت له صدور إخواني من الإخوان، ولكن أليس الأمر من موارد الاجتهاد والنظر؟!

أليس تحقيق مناط الأحكام مِن الاجتهاد الذي لا ينقطع حتى تقوم الساعة كما ذكر الشاطبي رحمه الله؟ أوليس أكثر ما يكون مِن خلاف بين العاملين للإسلام إنما هو مِن هذا الباب، وفي هذه المرحلة مِن مراحل صناعة الفتوى.

ومما يغيب أيضًا: أن الإخوان وإن كانوا جماعة واحدة فهم ليسوا على قلب رجل واحد، والسلفيون كذلك، بل إن الله قد وصف أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم وهم صفوف حوله في ساحة الوغى فقال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، ثم يمتن الله على الجميع فيقول: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].

أليس يمكن أن يكون بيْن هؤلاء وأولئك مَن هو أشد بأسًا ومَن هو دون ذلك، وآخر أشد ورعًا وغيره دون ذلك، ومَن أعطي قوة علمية، ومن أعطي قوة عملية، ومن هو أعظم همة في الإقدام على الطاعات، ومَن هو أملك لنفسه في الإحجام عن المحرمات، ومَن فتح عليه في باب من الخير، ومَن فتح عليه في باب آخر؟!

ومما يغيب عن كثير مِن الناس: أن القسمة على اثنين أدعى لحصول الشقاق والنزاع، وقد كان مِن المشايخ مَن يمازح صاحب الزوجتين بأنه لن يستريح باله حتى يضم إليهما ثالثة! فما بالنا أهملنا أن العمل الإسلامي فيه تيارات أخرى لا تنسب إلى أحد هذين التيارين؟!

إن كثيرًا مِن الساسة والمفكرين في الولايات المتحدة يحبذ إنشاء حزب ثالث؛ لتنكسر ثنائية الديمقراطيين والجمهوريين التي يرونها أضرت بالبلاد، وأوصلتها إلى مرحلة مؤسفة مِن الانقسام قد تؤدي إلى عواقب وخيمة.

إننا لا ندعو إلى الفرقة، بل الوحدة، ولكن وحدة القلوب والصفوف لا وحدة الآراء؛ فتلك الأخيرة وإن سعينا إليها قدر الجهد، فنحن ندرك أنها لم تتحقق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في حياته صلى الله عليه وسلم، فإنهم عندما غابوا عنه فاجتهدوا؛ جرت فيهم سنة الله في اختلاف الناس.

إن الاعتراف أولاً بأن السلفيين ليسوا شيئًا واحدًا سيكون مهمًا، وفي صالح السلفية التي ينبغي ألا تُربط بفريق أو جماعة، بل تسري في بدن الأمة كالماء في الورد، ولا أرى يروج لغير ذلك إلا رجل مِن داخلها أراد احتكارها لنفسه أو طائفته، وآخر مِن خارجها أراد هدمها بفعل بعض المنتسبين إليها، ثم يأتي دور إدراكنا أن هناك مِن عباد الله الصالحين مَن لا يُنسب إلى هؤلاء أو أولئك، وليس المنتسبون بأولى منهم بالعمل الإسلامي، ولا أقرب سببًا.

ومما يغيب عن هؤلاء: أنهم بنشر طعنهم في بعضهم البعض على رؤوس الخلائق إنما يحققون ظن الكارهين لهم في أنهم متى تمكنوا بغوا، وكان بأسهم بينهم شديدًا قبل أن يكون على غيرهم!

أنا لا أدعو إلى رص الصفوف في مواجهة أحد مِن عموم المسلمين، بل عكس ذلك أردت؛ ألا يبغي أحدنا على أحد، وألا نرى لأنفسنا فضلاً على أحد، وأن يكون ولاؤنا للحق؛ معه ندور، وتعاوننا على البر مع كل مريد له نصول ونجول، ولكن الذي ينبغي علينا إذ نختلف هو أن نُري الناس منا حكمة ونبلاً في إدارة الخلافات وحل النزاعات بما يحفظ الحقوق، ويصون الحرمات.

بذلك نُسهِم في ترشيد الحوار بيْن أبناء الوطن كلهم؛ ليعلو صوت الحق والحكمة فوق رجيع الأصوات، ولا يحول بينه وبين ألباب المتحاورين نفخ الشياطين.

لعلي اقتربت بكم مِن تفاصيل الصورة كثيرًا، ولست أقصد مِن ذلك نفي كل فرق بيْن ذينك التيارين المذكورين، ولكن مع كثرة ما ننظر إلى الصورة مِن بُعد، نحتاج إلى ساعة نقترب فيها؛ ليحصل لنا مِن التوازن ما أرجوه لنفسي، ولمن يقرأ تلك السطور وسائر المسلمين.

وصلى الله على محمد، وآله وصحبه.


حاتم الحاج

27 جماد أول 1432هـ / 30 إبريل 2011م

 

المصدر: موقع صوت السلف