الإسلام رفع الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا من الأمم

منذ 8 ساعات

فمن رحمة الله تعالى وكرمه بهذه الأمة أن وضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، فأحل لها كثيرًا مما حرِّم على غيرها، ولم يجعل في شريعتها عنت وشدة

كانت هناك من الآصار والأغلال على الأمم التي سبقتنا، فكان إذا أصاب النجسُ ثوبَ أحدهم لا يطهره بل يقطع الثوب، كما ورد في رواية الإمام أحمد والحاكم واللفظ له من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان بنو إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم البول قرضه بالمقراض».

 

وعند اليهود كانت المرأة إذا حاضت لم يؤاكلوها ولم يساكنوها في بيت واحد، حتى جاءت شريعتنا ونسخت هذا، فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إذا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ، لَمْ يؤاكلوها وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ[3]، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى:  {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [4] قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ...}  [البقرة: 222]، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: :  «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ» فَبَلَغَ ذلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلاَّ خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالاَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَلاَ نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا [5]، فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا، فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا.

 

• وكان من قبلنا إذا أرادوا التوبة كان يقتل بعضهم بعضًا؛ كما حدث مع من عَبَدَ العجل في زمن موسى - عليه السلام - وفي هذا حديث رواه النسائي في السنن الكبرى، وابن جرير الطبري- رحمه الله - وابن أبي حاتم في تفسيرهما؛ (انظر تفسير ابن كثير (160 /3).

 

• وقد ثبت في تفسير ابن المنذر-رحمه الله-: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مجتمعين عند ابن مسعود رضي الله عنه، فتذاكروا بني إسرائيل وما أعطاهم الله من فضائل، فقال عبد الله بن مسعود: كان الرجل من بنــي إسرائيـــل إذا أذنب ذنبًا كُتِبَ ذنبه علـــى بـــاب داره، وكُتِبَ معه كفـــارة ذلك؛ ليغفر ذلك الذنب، أما أنتم فجعل الله مغفرة ذنوبكم قول تقولونه بألسنتكم، ثم تلا قول الحق:  {وَالَّذِينَ إذا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}  [آل عمران: 135، 136]، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: والله ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية.

 

وقد أمر الله تعالى أهل الكتــاب أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو مكتــوب عندهم في التوراة والإنجيـــل، وهو يــأتي بشريعة سمحة ترفع عنهم الإصر والأغلال، قال تعالى:  {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]؛ أي: إن الذين يتبعوه يضع عنهم الإصر والأغلال.

 

• ونقل ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال:  إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهِدت تيسيره، وقد كانت الأُمَم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسَّع الله على هذه الأُمَّة أمورها وسهَّلَهَا لهم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «إن الله تجاوز لأُمَّتِي ما حدَّثَت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل»؛ (أخرجه البخاري ومسلم).

 

• وفي رواية عند ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «إن الله تجاوز لأُمَّتي عمَّا تُوسوس به صدورهم ما لم تعمل أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه»؛ (صحيح الجامع:1729).

 

• وأخرج الطبراني في الكبير عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «رُفِعَ عن أُمَّتِي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه»؛ (صحيح الجامع:3515).

 

• وفي رواية الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه»؛ (صحيح الجامع:1731).

 

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري:11/520: وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها لقوله: تجاوز لي، وفيه إشعار باختصاصها؛ اهـ.

 

وكان في شريعة من قبلنا القصاص، ولم يكن فيهم الدِّية:

يقول ابن عباس - رضي الله عنهما-: كان في بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم الدية؛ كما قال الله عن أهل التوراة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].

 

ولم يذكر ديَّة ولا عفوًا، ثم قال تعالى لهذه الأمة:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178].

 

فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة مما كتب على من كان قبلكم؛(رواه البخاري) انظر تفسير ابن جرير الطبري -رحمه الله (65/2).

 

• وكان في صيامهم عنت ومشقة؛ حيث كانوا يمسكون عن الطعام والشراب والكلام، وقد جاء في عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي  229/3:عن القاضي أبي بكر بن العربي المالكي - رحمه الله - أنه قال: كان من قبلنا من الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حرج، فأرخص الله لهذه الأمة بحذف نصف زمانها وهو الليل، وحذف نصف صومها، وهو الإمساك عن الكلام ورخص لها فيه[6].

 

وكان من قبلنا إذا أذنب ذنبًا يكتب ذنبه على باب داره، وتكتب معه كفارته؛ (فضيحة وعار على رؤوس الأشهاد).

 

أما نحن - الأمة المحمدية - فقد جعل الله كفارة ذنوبنا قولًا نقوله بألسنتنا، فتوبتنا أسهل تناولًا، وأسرع قبولًا.

 

فمن رحمة الله تعالى وكرمه بهذه الأمة أن وضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، فأحل لها كثيرًا مما حرِّم على غيرها، ولم يجعل في شريعتها عنت وشدة؛ قال تعالى:  {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى:  {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}  [المائدة: 6].

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:  «عباد الله، أن الله وضع الحرج»؛ (رواه أبو داود والطبراني في الكبير بسند صحيح).

 

قال الإمام النووي - رحمه الله -: وفي أحاديث الباب بيان ما أكرم الله تعالى به هذه الأمة زادها الله شرفًا وخفَّفه عنهم مما كان على غيرهم من الآصار، وهو الثقل والمشاق؛ قال تعالى:  {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، وقال تعالى:  {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وفي مسند الإمام أحمد من حديث محجن بن الأدرع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَضِيَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ الْيُسْرَ وَكَرِهَ لَهَا الْعُسْرَ»؛ (الصحيحة (1635:، وفي رواية: أنكم أمة أريد بكم اليسر.

 

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا»؛ (متفق عليه).

 

فشريعته صلى الله عليه وسلم أكمل الشرائع وأسهلها وأيسرها، وهو القائل صلى الله عليه وسلم:  «إني أُرسلت بحنيفية سمحة» (الصحيحة (1829:).

 

• وفي رواية أن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به.

ولهذا أرشد هذه الأُمَّة أن يقولوا:  {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]، فقال رب العزَّة: نعم، وفي رواية: قال: قد فعلت؛ اهـ.

 


[1] الإصر: العهد الثقيل (لسان العرب:4 /22).

[2] الأغلال: جمع غل، وهي حديده توضع في العنق أو اليد، يقال في رقبته غل حديد، والمراد هنا الأثقال (لسان العرب: 11 /504).

[3] لم يجامعوهن في البيوت: أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد.

[4] المحيض الأول: المراد به الدم، والثاني قد اختلف فيه: قيل إنه الحيض ونفس الدم، وقال بعض العلماء: هو الفرج، وقال آخرون: هو زمن الحيض.

[5] قد وجد عليهما: أي غضب عليهما.

[6] أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره عن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى -حكاية عن مريم عليها السلام: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ﴾ [مريم: 26]، قال :صمتًا، قال ابن كثير: وكذا قال ابن عباس -رضى الله عنهما -والضحاك، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه أنه قال: صومًا وصمتًا، وكذا قال قتادة وغيره، والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام؛ نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد؛) انظر تفسير ابن كثير (124 /3: (تفسير ابن جرير (56 /16: (تفسير القرطبي (98/11).

__________________________________________________________
الكاتب: الشيخ ندا أبو أحمد