غَزّة مَلحمة الصمُود والأمَل

منذ 2024-11-06

رغم كل الظلام الذي يحيط بنا، هناك شعاع من النور يشقّ طريقه بين السحب الداكنة، الأمل في النصر والتحرير لا يزال حيًّا في قلوبنا..."

بين عشيةٍ وضحاها يتغير كل شيء من حولنا؛ فالأحوال تتبدَّل عادةً دون سابق إنذار، اليوم صرتُ أكثر الناس إيمانًا بأن الدنيا ليست كاملة لأحدٍ على الإطلاق، أكثر الخاسرين هو الذي يَعتقد أن الدنيا قد حِيزَت له؛ فهي ليست لكَ أو لغيرك على الأرجح.

أقف على أطلال منزلي المُهَدَّم، فتذرف عيني دمعةً حارةً تلسع وجنتي أثناء العبور فوقها، أتذكر تلك اللحظات التي قضيتها بين جدران ذلك البيت وتحت سقفه، مع أمي وأبي وإخوتي، طفولتي وصباي وشبابي، بكائي وفرحي، حضن أمي وابتسامة أبي، وتجمُّع إخوتي على مائدة الطعام، أتذكر كل لحظة احتضنها لي هذا البيت، فيتألم قلبي لاختفاء كل شيء بين عشية وضحاها.

أدير نظري في الجوار فأرى المنظر نفسه؛ أكوام مُبعثرة من الحطام في كل اتجاه؛ ذلك الركام الذي كان لمنازل مثل منزلي، والذي امتلأ بالكثير من الذكريات التي اندثرت مع الكثيرين من أهل غزة الذين تاهت أجسادهم تحت الركام، بفعل قصفٍ لم يرحم حجرًا ولا شجرًا ولا بشرًا.

جلستُ فوق صخرة مبتورة من أحد الجدران، تذكرت أبي وهو يخبرني أن فلسطين أرض عَصيَّة على الغزاة مهما طال الزمان، وأن أهلها مثل الزيتون؛ جذورهم تضرب عميقًا في باطن الأرض، وفروعهم تمتد نحو السماء، حتى في أقسى الظروف، لم أكن أفهم تمامًا ما كان يقصده حينها، أما الآن، وقد انهارت كل معالم الحياة التي كنت أحلم بها، فأدركت أنني جزء من تلك الأرض، مثلما هي جزء مني.

بينما جلست فوق تلك الصخرة، شعرت بأن أقدامي غاصت في الأرض، وكأنها تريد أن تمسك ببقايا الوطن المتبقي، وأن تتشبث بما لم يستطع الصمود أمام قسوة الدمار، طيلة أشهر طوال ثقيلة أيامها، أصبحت الحياة هنا شبيهة بكابوس طويل لا نهاية له؛ القصف لم يتوقف، والموت صار ضيفًا دائمًا على موائدنا المعدومة، كل ليلة تحمل معها قصة جديدة من الألم والفقد، تُضاف إلى سجلّ طويل من الحكايات التي لم تَعُد تجد مكانًا في ذاكرتنا المثقلة.

الأطفال لم يعودوا يلعبون في الشوارع؛ فقد تحوَّلت تلك الشوارع إلى ميادين للدمار، مليئة بالحطام والركام، النساء اللاتي كن يجلسن عند أبواب المنازل، يتبادلن الأحاديث والضحكات، غادرن مقاعدهن، ولم يبقَ من أثرهن إلا الهمسات الحزينة، أصوات خافتة تتردد في زوايا المنازل المدمَّرة، تتحدث عن الفقدان، عن الليالي الطويلة التي قضينها في الظلام، خائفات من صوت القذائف الذي يخترق السماء بلا هوادة.

كان لي صديق يحلم بأن يصبح مهندسًا، يُعيد بناء غزة من جديد، يجعلها جنَّة على الأرض كما كان يقول، لكنه الآن، أصبح واحدًا من أولئك الذين تاهت أرواحهم في هذه الحرب، لقد رحل تاركًا حلمه يتبدَّد في الهواء مثل دخان الطائرات الحربية.

أذكر يوم دفنَّاه، كانت السماء ملبَّدة بالغيوم، وكأنها تبكي معنا، لم يكن هناك قبر يَليق بجثمانه، فقط حفرة صغيرة حفرناها في الأرض على جانب إحدى الطرق، ووضعنا فيها جسده الملفوف في كفن أبيض مُضَرّج بدمائه، كان الحزن يغمرنا جميعًا، ولكن لم يكن هناك وقت للبكاء؛ فالحرب لا تنتظر مشاعرنا.

الليل هنا لم يعد يجلب الراحة، بل أصبح جزءًا من الألم المستمر، في كل زاوية، ترى أثرًا من تلك الليالي السوداء؛ حيث اختلط الدم بالتراب، وأصبحت الشوارع التي كانت تملأها الضحكات مغمورةً بالصمت الحزين.

البرد والخوف كان يزحف إلى عظامنا، وكأنّ قسوة الحرب لم تكن كافية لتعذّبنا، كنا نحتمي ببقايا الجدران، نلتف حول بعضنا البعض؛ بحثًا عن دفء مفقود، نتحدث بصوت منخفض، وكأننا نخشى أن يسمعنا الموت فيعود ليأخذ من بيننا المزيد.

في تلك اللحظات، كان الأمل يبدو شيئًا بعيدًا، مثل ضوء شمعة في نهاية نفق طويل ومظلم، كنا نعيش على بقايا ذكريات، نحاول جاهدين أن نتذكر الأيام التي كانت فيها الحياة بسيطة، مليئة بالضحكات والأحلام الصغيرة، لكنَّ تلك الذكريات كانت تتلاشى مع مرور كل يوم، تاركةً وراءها فراغًا كبيرًا لا يملأه أيّ شيء.

حتى البحر، الذي كان يبعث في نفوسنا الطمأنينة، لم يعد كما كان، مياهه صارت داكنة، تحمل في طياتها رائحة الموت والدمار، الأمواج التي كانت تُهدّئنا، أصبحت هي الأخرى جزءًا من ذلك الصراع، تشتكي بصوتها العالي من ثِقَل الأجساد التي ابتلعتها، وهي تبحث عن ما تسدّ به رمقها، أو تهرب من مصيرها المحتوم.

كل زاوية في غزة تحمل قصة، كل حجر عليه آثار الدم يحمل سرًّا من أسرار هذه الحرب.

الجدران -رغم انهيارها- تهمس لنا بحكايات عن الأمل المفقود، عن أحلام الشباب التي تحطمت على صخور الواقع القاسي.

الشوارع -رغم خرابها- تتحدث عن أصوات كانت تملأها يومًا ما، عن خطوات كانت تسير فيها، وتتحول الآن إلى رماد.

ومع مرور الوقت، يتلاشى الغضب، ويحل محلّه إحساس بالفراغ الذي يعقب الفقدان، والذي لا يملأه شيء على الإطلاق، لم يعد لدينا ما نخسره؛ فقد خسرنا كل شيء، لم يعد لدينا ما نأمل فيه، فقد تبدَّدت الآمال في الهواء، ولكن مع ذلك، لا يزال هناك شيء ما في أعماقنا يرفض الاستسلام، شيء ما يصرّ على البقاء، على التمسك بتلك الأرض التي أصبحت تجري في دمائنا.

غزة ليست مجرد مدينة، بل هي كيان حي، ينبض بالحياة رغم كل شيء، هي أكثر من مجرد مكان، هي رمز للصمود، للتمسك بالحياة رغم كل الصعاب، هي مرآة تعكس آلامنا، أحلامنا، وأحزاننا، هي جزء منا، ونحن جزء منها.

نعرف أن الحرب ستنتهي يومًا ما، وأن الحياة ستعود تدريجيًّا إلى هذه الأرض، لكننا نعرف أيضًا أن شيئًا ما قد تغيَّر إلى الأبد، وأن شيئًا ما قد انكسر في داخلنا، ولن يعود كما كان.

غزة ستظل شامخة رغم كل شيء، ستظل رمزًا للأمل، للتمسُّك بالحياة، ولكن في نفس الوقت، ستظل جرحًا مفتوحًا، جرحًا يُذكّرنا دائمًا بما فقدناه، بما مررنا به، بما أصبح جزءًا من ذاكرتنا الجماعية.

رغم كل الظلام الذي يحيط بنا، هناك شعاع من النور يشقّ طريقه بين السحب الداكنة، الأمل في النصر والتحرير لا يزال حيًّا في قلوبنا، يتغذَّى على صمودنا وتمسُّكنا بحقوقنا، نعلم أن الصعاب كثيرة، وأن الطريق طويل وشاقّ، ولكننا نؤمن بأن الفجر آتٍ لا محالة.

 فلسطين ستتحرر، وغزة ستنهض من بين الركام، قوية، شامخة، كما كانت دائمًا، ستعود الحياة إلى شوارعها، وستُعيد ابتسامات الأطفال الأمل في غدٍ أفضل.

هذا الإيمان هو ما يجعلنا نستمر، نكافح، ونصمد، وبينما أقف هنا، أنظر إلى الأفق، أعلم أنني جزء من هذه القصة، جزء من هذه الأرض، وأنه مهما حدث، ستظل غزة في قلبي، وستظل ذكرياتي محفورة في كل زاويةٍ من زواياها.

______________________________________________
الكاتب: د. محمود حلمي