سفراء الأخلاق

منذ 2024-11-15

إن هذا التراحُم والتواصل والتعاون من أهم ما يجب أن نزرعه في قلوبنا، فالأخلاق ليست فقط تصرفات عابرة، بل هي أساس تقوم عليه الأمة.

فيا أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي أساس السعادة وسِرُّ النجاح في الدنيا والآخرة، والتقوى تزيد في القلوب الخشوع، وفي الأرواح الصفاء، وفي المعاملات الحسن، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

 

وإن من تمام التقوى أن نتحلَّى بمكارم الأخلاق، فهي زينة المؤمن وسببٌ لمحبة الله ورضاه، كما أنها جسرٌ متينٌ بين الإنسان وربِّه، وبين الناس بعضهم البعض.

 

إن الأخلاق هي عنوان الأمة، وهي التي تميز مجتمعًا عن آخر، وأمة عن أمة. الأمة التي تتحلى بالأخلاق هي أمة متماسكة، قوية، قادرة على الصمود أمام التحديات؛ ولهذا جاءت رسالة الإسلام لترسيخ مكارم الأخلاق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارم الأخلاق»، فهذا الحديث يلخص رسالة الإسلام التي جاءت لإكمال مكارم الأخلاق وتأسيس مجتمع مثالي قوامُه الحبُّ والتسامح.

 

أيها الأحبة، إن الأخلاق الكريمة تشمل العديد من الفضائل التي تجعل المسلم قدوةً حسنةً، وتساعده على تحقيق رِضا الله والنجاح في الدنيا والآخرة. ومن هذه الفضائل الصدق، فالصدق أساس الثقة والأمان، وهو حجر الزاوية لبناء علاقات سليمة متينة بين الأفراد والمجتمعات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنة.

 

الصدق ليس فقط في القول، بل هو منهج حياة ينبغي أن يسير عليه المؤمن في كل أعماله وتعاملاته.

 

وكذلك من الأخلاق التي حثَّ عليها الإسلام الأمانة، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. إن الأمانة تشمل الحفاظ على الأموال والعهود والأسرار، وهي عنوان الشخصية الصالحة، ولا شك أن من اتَّصَف بها اكتسب ثقة الناس وحبهم، وإن ضياع الأمانة من علامات ضعف الإيمان؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا إيمان لمن لا أمانة له.

 

معاشر الإخوة الكرام، إن الأخلاق الكريمة تجعلنا قريبين من الناس، وتجعلنا قادرين على تكوين علاقات مليئة بالمحبة والمودة، وقد شَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في تعاطُفهم وتراحُمهم بالجسد الواحد، فقال: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى».

 

عباد الله، إن الأخلاق الحميدة تجعل المسلم يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه، وتجعله متفهمًا لظروف الآخرين، صبورًا على ما يلاقيه منهم، ومسارعًا في مساعدتهم عند الحاجة. وإن هذا التراحُم والتواصل والتعاون من أهم ما يجب أن نزرعه في قلوبنا، فالأخلاق ليست فقط تصرفات عابرة، بل هي أساس تقوم عليه الأمة. إذا صلحت أخلاق الأمة صلحت أحوالها، وإذا فسد خلقها فإنها تسقط في الفتن والنزاعات، ولا تجد سبيلًا إلى النهضة والتقدم.

 

فيا أيها المؤمنون، إننا في حياتنا اليومية نحتاج إلى الأخلاق الحسنة في تعاملاتنا مع الجميع، بدءًا من أهلنا وأصدقائنا، وصولًا إلى زملائنا في العمل وجيراننا وحتى مع من لا نعرفهم. إن التعامل بالأخلاق الحسنة هو الوسيلة لتحقيق السعادة والاستقرار، وهو الذي يجعل الإنسان محبوبًا بين الناس.

 

ومن مكارم الأخلاق التي ينبغي أن نتصف بها الرحمة، فالرحمة تشمل كل كائن حي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». إن الرحمة تدعو المسلم إلى أن يكون لطيفًا، متسامحًا، كريم القلب، يعطف على الصغير، ويحترم الكبير، ويعطي المحتاج. وإن مجتمعًا يتحلى بالرحمة هو مجتمع سعيد، خالٍ من البغضاء والأحقاد.

 

ومن الأخلاق العظيمة التي حثَّ عليها الإسلام التواضع. التواضع سمة من سمات العظماء، ولنا في نبينا الكريم أسوة حسنة، فقد كان متواضعًا مع الجميع، لا يتكبَّر على أحد، يجالس الفقراء، ويتفقد أحوال الناس. وقال صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه»، فالتواضع يرفع مكانة الإنسان، ويجعله قريبًا من القلوب، ويبعد عنه الكبر الذي يؤدي إلى سقوط الإنسان وابتعاد الناس عنه.

 

ومن القيم الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم في حياته العفو والصفح، قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34].

 

إن العفو دليل على القوة والقدرة على التحكم في النفس، فعندما يصفح المسلم عن الآخرين، فإنه يُظهر قوَّته الأخلاقية، ويعزز روح التسامح في المجتمع، ويزيل الحقد والبغضاء من القلوب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفو ويصفح عمن أساء إليه، ويقول: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.

 

أيها المسلمون، إن التحلي بالأخلاق الحسنة في العمل هو من أعظم القربات إلى الله، فالعمل عبادة، وإتقان العمل والإخلاص فيه هو جزء من حسن الخلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»، كما أن حسن التعامل مع زملاء العمل يظهر حسن الخلق، ويعزز بيئة العمل الإيجابية. فالصدق، والأمانة، واحترام الوقت، والتفاني في العمل كلها من الأخلاق التي تعكس التزام المسلم بدينه.

 

أيها الأحبة، إن الأخلاق الحميدة تبدأ من المنزل، فعندما يكون الوالدان قدوة في الأخلاق، ينشأ الأبناء على التمسك بها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، فالأسرة هي المدرسة الأولى لتعليم الأخلاق، وإذا كانت الأسرة متحابة، رحيمة، متسامحة، صادقة، انعكس ذلك على أفرادها، فلنحرص، أيها المؤمنون، على أن نكون مثالًا للصدق والتسامح والرحمة بين أهلنا، حتى نترك لهم إرثًا أخلاقيًّا عظيمًا.

 

أيها المؤمنون، لا تقتصر الأخلاق على المعاملات الشخصية بل تتسع لتشمل المعاملات المالية، فالمسلم مطالب بأن يكون أمينًا، صادقًا في تجارته، لا يغش ولا يحتكر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من غش فليس منا»، وغش الآخرين في البيع والشراء أو المعاملات المالية هو مخالفة لأخلاق الإسلام.

 

الأخلاق ليست مجرد كلمات نقولها، بل هي أفعال نمارسها في حياتنا اليومية، في قيادتنا للمركبة، وفي كل تعاملاتنا، ومع كل من حولنا، فلنحرص على أن نكون قدوة حسنة، ودعاة للخير بعملنا قبل قولنا، وأن نكون سفراء للإسلام بأخلاقنا الحسنة؛ فالأخلاق الحسنة هي أسمى رسالة يمكن أن نقدمها للعالم، وهي التي تبني المجتمعات، وتجعل الناس ينظرون إلى ديننا بتقدير وإعجاب.

 

نسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها، وأن يجعلنا من الذين قال فيهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.