{لا تحسبوه شرا لكم}

منذ 2024-11-16

إن ما يجري اليوم من الابتلاءات والمحن، وما يتعرض له المسلمون في أكثر البلدان من تسَلُّط الأعداء، والكيد للمسلمين، إن كل ذلك يتم بعلم الله وحكمته سبحانه، ونجزم أن وراءه الخير الكثير، وأن العاقبة للمتقين.

أيها المسلمون، تشهد السنوات الأخيرة -وإلى الآن- حربًا شرسة من اليهود والنصارى والمنافقين، على الإسلام وأهله، تدور رحاها في أكثر بلاد المسلمين، وخاصة على أرض الشام، وعلى وجه الخصوص على أرض فلسطين وغزة، وهذه سُنَّة الله في تمحيص أوليائه، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].

 

ومن هذه الآية نفهم أن العداوة والصراع سُنَّة من سنن الله تواجه المؤمنين الصادقين، فهي معركة تتجَمَّع فيها قوى الشر، وتتعاون وتتَّحِد لحرب المؤمنين الصادقين الذين يقفون في وجه الباطل ويقولون له: أنت باطل!

 

وهذه الحرب على الإسلام لا تدل على ضعفه، بل هي ظاهرة تدل على أن الإسلام بدأ بأتباعه يشكِّل مصدر خطر ورعب على أعدائه، وهنا حقيقة ظاهرة لا لبس فيها ولا شك "إن هذه الحرب التي تدور رحاها اليوم هي بين الدين الحق وبين أعداء الدين من يهود ونصارى، وأهل شرك، ووثنيين، وأهل ضلال، وأهل شبهات ومن في قلبه حقد وغل على الإسلام وأهله".

 

لكن أيضًا نحن نجزم أن وراء هذه الابتلاءات الخير الكثير، ربما لا نتصوره الآن لهول المصيبة، ولكنه سيظهر قريبًا -بإذن الله- {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11]، {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وربما يسأل سائل، فيقول: هل تعني أن وراء هذه المحن والمصائب التي تحل بالمسلمين، منفعةً وفائدةً؟ المسلمون يُقتَّلون، ويُطاردون، ويُحاصرون، وتُلفَّق لهم التُّهم العظام، وتقول لي: إن وراء ذلك فائدةً ومصلحةً!

 

ونقول لهذا السائل: نعم، بل ليست فائدة واحدة، بل فوائد عظيمة، نحن عنها غافلون؛ لذلك سريعًا ما يبدأ يسيطر علينا اليأس والقنوط.

 

فاسمع -أيها المسلم- يا من يحزنك ما ترى وما تسمع من أحوال المسلمين:

أولًا: قد يكون الابتلاء سببًا ليراجع الإنسان نفسه، ويحاسبها على ما اقترفت من الذنوب، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43].

 

لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتوبون ويرجعون إلى الله، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

 

وكم من الناس مَنْ تاب إلى الله، ورجع إليه بعد حادث أصابه، أو بعد فقد عزيز عليه، فكان في ذلك البلاء الخير العظيم {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

 

والشدائد والصعاب تُربِّي الرجال، وتُصلح فاسدهم، والمؤمن قد يشغله الرخاء وهناء العيش، فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربِّه، والشدائد تُذكره بربِّه وخالقه.

 

ثانيًا: وفي الابتلاء تهيئة للمبتلين لمقامات رفيعة في الدنيا والآخرة، لا يمكنهم الوصول إليها إلا على جسر من التعب والبلاء، وهذا الأمر مُشاهد معروف.

 

وهذا هو الإسلام يحارب، ويُضيق عليه، وتُشَن عليه الدعايات الكاذبة، وما دروا أنهم بذلك ينشرونه في الدنيا، ليصل الإسلام إلى أماكن لا يمكن أن يصل إليها بهذه السرعة، وليعرف أقوام الإسلام، وقد كانوا أكثر الناس جهلًا به، ولعلكم تتابعون الأحداث التي حصلت ولا زالت تحصل في أرض الملاحم والرباط في الشام، وعلى وجه الخصوص على أرض فلسطين وغزة، من بداية طوفان الأقصى، والأخبار تتداول بأن الكثير من غير المسلمين يبحثون عن الإسلام، ويتعرفون عليه، وخاصة بعد واقعة إطلاق الأسرى من النصارى الذين أطلقتهم "كتائب القسام وأفرجت عنهم، وتحَدَّث أولئك الذين تم إطلاقهم عن أخلاق المسلمين وحسن تعاملهم، وكرم الضيافة؛ مما أدَّى ذلك إلى أن الكثير من الغربيين بدأ يبحث عن الدين وعن الإسلام، وبحمد الله الكثير دخلوا في الإسلام، بفضل الله، ثم بحسن تعامل وأخلاق أهل الإسلام، {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

 

ثالثًا: بالابتلاء يعرف المسلم عدوَّه من صديقه، فتتميَّز الصفوف، وتسقط الأقنعة، صحيح أن الأمة ستخسر أعدادًا كبيرة؛ ولكن في هذا التمييز خير كثير للدين وأهله؛ لأن في ذلك فضحًا للمنافقين والذين في قلوبهم مرض، حتى نأخذ الحذر منهم، ولا نخدع بهم، يقول الحق سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].

 

فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الأذى والتضحيات إلا أصحابُ دعوة الحق، الذين يؤثِرون دعوتهم على راحتهم، بل يضحون بالحياة كلها في سبيل نشر دين الله، وهذه الثُّلَّة المؤمنة أكرمهم الله بالثبات على دينه، كتابه تعالى وسنة رسوله، وأما أهل النفاق ومن خانوا دينهم وباعوا أمتهم، وارتموا في أحضان أعدائهم، فهؤلاء فضحهم الله، وبيَّن ما يحملون من حقد وكره للدين وأهله، فتراهم في مثل هذه الأحداث يسارعون في الإثم والعدوان ومعصية الرسول، وتراهم يسعون جاهدين في إرضاء أعداء الدين بحربهم على الحق والخير والفضيلة، فما من خير إلا ومنعوه، وما من دعوة حق إلا وحاربوها، وما من باطل إلا وشجَّعوه ودعموه، ففي مثل هذه الأحداث، يظهر المحق من المبطل، وتتمايز الصفوف.

 

رابعًا: ومن فوائد الابتلاء: رجوع كثير من المسلمين في بلاد الكفر إلى إسلامهم الصحيح، بعد ما رأوا وعاشوا الرعب في بلاد الحرية والديمقراطية بعد الأحداث الأخيرة.

 

فمهما تخَلَّى المسلمون عن إسلامهم، ومهما ذابوا في حضارة الكفر، يبقى الغرب ينظر للمسلم أنه مسلم.

 

فعندها يعرف المسلم أنه لا التقاء بين الإسلام والكفر، ليس هناك إلا البراء من الكفر والكافرين.

 

خامسًا: ومن فوائد الابتلاءات -خاصة التي تكون من الكفار- معرفة قدر عداوة الكفار للمسلمين، وحقدهم الشديد على الإسلام، فالحرب التي يشعلونها حربٌ دينيةٌ عقديةٌ وإن لُبِّست بلبوس العدل، أو نشر الحرية، فأين العدل من المجازر التي يرتكبها اليهود اليوم على أرض فلسطين وغزة على وجه الخصوص؟! وأين العدل والحرية من المجازر التي يرتكبها أعداء هذا الدين في كثير من البلدان، في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي السودان، ومناطق عديدة؟! جرائم بشعة تُرتَكَب بحق المسلمين المؤمنين الموحِّدين، وإلى الله المشتكى، فاليهود من جهة، والنصارى من جهة أخرى، والبوذيون كذلك، والسيخ والهندوس كذلك.

 

وهذا يدلك على الحقد الدفين على الإسلام وأهله، فهم وأعوانهم يحاربون الدين والإسلام ليس إلا ذلك، أما ما يرفعونه من شعار "الحرب على الإرهاب، والحرب على التطرف، والحرب على أعداء السلام، وغير ذلك من الشعارات، فكل ذلك كذب وبهتان ومغالطة وضحك على المغفلين من أبناء الإسلام، فالحرب دينية عقائدية.

 

أين ما يتشدَّق به الإعلام الغربي، ومن دار في فلكه من الإعلام العربي العميل الذين يكررون ما يقوله اليهود والنصارى وسائر أهل الضلال وأهل الأهواء ومروِّجو الشبهات ومُشجِّعو الشهوات؟! فهؤلاء كلهم في ميدان واحد؛ هو ميدان الحرب على الإسلام، وعلى الدين، وعلى الحق كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، أليس هذا إرهابًا؟!

 

ولكن -مع الأسف- دم المسلم وكرامته أرخص ما يكون، ولكن لا يضيع شيء عند الله {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

 

 

عباد الله، إن ما يجري اليوم من الابتلاءات والمحن، وما يتعرض له المسلمون في أكثر البلدان من تسَلُّط الأعداء، والكيد للمسلمين، إن كل ذلك يتم بعلم الله وحكمته سبحانه، ونجزم أن وراءه الخير الكثير، وأن العاقبة للمتقين.

 

وهذه الصحوة -التي يشهدها العالم- من أبناء المسلمين لهي أكبر الإرهاصات والبشائر بعودة هذا الدين، والتمكين لأهله في الأرض، وإن كل هذه الابتلاءات، وكل هذا التسلُّط من الأعداء لم تزد هذه الصحوة إلا نماء وثباتًا ووعيًا بطبيعة هذا الدين، وحقيقة المعركة.

 

ولو أن هذه الحروب الشرسة تعرَّض لها غيرُ المسلمين، لانتهى أمرهم منذ زمن بعيد.

 

ولكنه دين الله الذي تكفل بحفظه وحفظ أتباعه، وتكفل بنصرتهم، يقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173].

 

ولقد مرت بالمسلمين -في تاريخهم- فتراتٌ تسلَّط فيها الأعداء من التتار والصليبيين وأهل البدع، وبلغ التفرق بين المسلمين مداه، وذاق المسلمون حياة الذل والمهانة حتى خُيِّل لبعض من عاش في ذلك الزمان أنه لن تقوم للإسلام والمسلمين قائمة.

 

ومع ذلك جاء نصر الله، وقامت دولة الإسلام قوية كما كانت، وخرج الأعداء من ديار المسلمين صاغرين.

 

فلا يأس ولا قنوط إذًا من عودة الإسلام في هذا الزمان، ولكن ذلك يتطلَّب التضحيات من المسلمين، والصبر والثبات والالتزام بهذا الدين ظاهرًا وباطنًا، وأن يكون جميع المسلمين على وفق منهج الله؛ كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وعلى ما كان عليه الصحابة الأخيار.

{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ}.

_________________________________________________
الكاتب: أبو سلمان راجح الحنق