التحذير من الظلم
أيها المظلوم، الله لا يضيع حقك ولا يردّ دعاءك، ولو مضى زمان طويل؛ لأنه حليم لا يعجل عقوبة العباد لعلهم يرجعون عن الظلم والذنوب إلى إرضاء الخصوم والتوبة.
الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا إله سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
الله تعالى لا يظلم أحدًا من عباده، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54]، وقال جل شأنه: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13، 14]، قال سبحانه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17].
روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تضارُّون في رؤية الشمس في الظهيرة، ليست في سحابة» ؟»، قالوا: لا، قال: «فهل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس في سحابة» ؟»، قالوا: لا، قال: «فوالذي نفسي بيده، لا تضارُّون في رؤية ربكم، إلا كما تضارُّون في رؤية أحدهما»، قال: «فيلقى العبد، فيقول: أي فُل، ألم أكرِمْك، وأسوِّدْك، وأزوِّجْك، وأسخِّر لك الخيل والإبل، وأذرك تَرْأَس وتَرْبَع؟ فيقول: بلى، قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول: أي فُل، ألم أكرمك، وأسوِّدْك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك تَرْأَس، وتَرْبَع، فيقول: بلى، أي رب. فيقول: أفظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك، وبكتابك، وبرسلك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد عليَّ؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه» "؛ (مسلم، حديث: 2968).
تضارُّون: يلحقكم مشقَّة أو تَعَب.
فُل: يا فلان.
أسوِّدك: أجعلك سيدًا على غيرك.
تَرْأَس: تكون رئيس القوم وكبيرهم
أذرك: أدعك.
تَرْبَع: تأخذ ربع الغنيمة.
أفظننت: أفعلمت.
فيه: فمه.
ليعذر من نفسه: ليزيل الله عذره من قبل نفسه.
قوله: (هل نرى ربنا): الاستفهام للاستخبار والاستعلام.
قوله: (يوم القيامة)؟ قيد به للإجماع على أنه تعالى لا يرى في الدنيا؛ لأن الذات الباقية لا ترى بالعين الفانية.
قوله: (هل تضارُّون): الاستفهام للتقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار، والمعنى: هل يحصل لكم تزاحم وتنازع يتضرر به بعضكم من بعض؟ (في رؤية الشمس)؛ أي: لأجل رؤيتها أو عندها (في الظهيرة): وهي نصف النهار، وهو وقت ارتفاعها وظهورها وانتشار ضوئها في العالم كله. (ليست): أي الشمس (في سحابة)؟ أي غيم تحجبها عنكم.
قوله: (ألم أكرمك)؛ أي: ألم أفضلك على سائر الحيوانات.
قوله: (وأسوِّدك)؛ أي: ألم أجعلك سيدًا في قومك.
قوله: (وأزوجك)؛ أي: ألم أعطك زوجًا من جنسك، ومكَّنْتُك منها، وجعلت بينك وبينها مودةً ورحمةً ومؤانسةً وأُلْفةً.
قوله: (وأسخر لك الخيل والإبل)؛ أي: أذللها لك، وخُصَّتا بالذكر؛ لأنهما أصعب الحيوانات.
قوله: (وأذرك تَرْأَس) المعنى: ألم أدعك تكون رئيسًا على قومك.
قوله: (وتَرْبَع)؟ أي: تأخذ رباعهم وهو ربع الغنيمة، وكان ملوك الجاهلية يأخذونه لأنفسهم.
قوله: (فإني أنساك كما نسيتني)؛ أي اليوم أمنعك من رحمتي كما امتنعت عن طاعتي في الدنيا.
قوله: (ليعذر من نفسه)؛ أي: ليزيل الله عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه بحيث لم يبق له عذر يتمسك به؛ (مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، علي الهروي،ج 8، ص3529:3528).
قال سبحانه: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]، وقال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقال تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله: «ثلاثة أنا خَصْمُهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعط أجره»؛ (البخاري، حديث: 2227).
قوله: «ثلاثة أنا خَصْمُهم» الله سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح؛ (نيل الأوطار، للشوكاني، ج 5، ص 352).
قوله: «رجل أعطى بي ثم غدر»؛ أي: عاهد عهدًا، وحلف عليه بالله تعالى ثم نقضه؛ (فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج 4، ص 418).
قال تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27].
قوله: «باع حرًّا وأكل ثمنه»: خص الأكل لأنه أعظم مقصود.
قال المهلب بن أبي صفرة (رحمه الله): وإنما كان إثمه شديدًا؛ لأن المسلمين أكفاء بالحرية، فمن باع حرًّا فقد منعه التصرف فيما أباح الله له، وألزمه الذي أنقذه الله منه؛ (فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج 4، ص 418).
قال الإمام ابن الجوزي (رحمه الله): الحرُّ عبد الله، فمن جنى عليه فخصمه سيده؛ (فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج 4، ص 419).
قوله: «فاستوفى منه»؛ أي: ما أراد به من العمل.
روى مسلم عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا»؛ (مسلم، حديث 2577).
قال الإمام النووي (رحمه الله): قوله: «إني حرمت الظلم على نفسي» قال العلماء: معناه: تقدست عنه وتعاليت، والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، كيف يجاوز سبحانه حدًّا وليس فوقه من يطيعه، وكيف يتصرَّف في غير ملك والعالم كله في ملكه وسلطانه، وأصل التحريم في اللغة المنع، فسمَّى تقدُّسه عن الظلم تحريمًا؛ لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء.
قوله تعالى: «وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا»؛ أي: لا تتظالموا. والمراد: لا يظلم بعضكم بعضًا، وهذا توكيد لقوله تعالى: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا» وزيادة تغليظ في تحريمه؛ (مسلم بشرح النووي، ج8، ص 378).
روى الطبراني عن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تحمل على الغمام، يقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين»؛ (حديث حسن) (صحيح الجامع للألباني، حديث 117).
معاني الكلمات:
اتقوا: اجتنبوا.
الغمام: السحاب.
قوله: «فإنها تحمل على الغمام»؛ أي: يأمر الله تعالى بارتفاع دعوة المظلوم حتى يجاوز بها السحاب؛ (فيض القدير، عبدالرؤوف المناوي، ج1، ص 141).
قوله: «لأنصرنك ولو بعد حين»؛ أي: أيها المظلوم، لا أضيع حقك ولا أردّ دعاءك، ولو مضى زمان طويل؛ لأني حليم لا أعجل عقوبة العباد لعلهم يرجعون عن الظلم والذنوب إلى إرضاء الخصوم والتوبة. وفيه إيماء إلى أنه تعالى يمهل الظالم ولا يهمله، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]؛ (مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، علي الهروي، ج 4، ص 1535).
ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، ويجعله سبحانه في ميزان حسناتي يوم القيامة. كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا العمل طلاب العلم الكرام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________________________________________________
الكاتب: الشيخ صلاح نجيب الدق
- التصنيف: