ارفع رأسك فربك الله

منذ 5 ساعات

ليس في الوجود شيء أثمن، ولا أغلى، ولا أنفس عند الله تعالى من الإنسان المؤمن.. يحفظه الله تعالى بحفظه، ويحرسه بعينه التي لا تنام

أيها الإخوة المؤمنون : على عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام صعد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماً شجرة الأراك يجتني سواكاً، فهبت الريح، فجعلت الريح (تكفؤه) وكان ضعيف البنية قوي الإيمان رضي الله عنه، كان فقير اليد غني اليقين، جعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مما تضحكون؟ فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد)

ايها الإخوة الكرام: ليس في الوجود شيء أثمن، ولا أغلى، ولا أنفس عند الله تعالى من الإنسان المؤمن..

يحفظه الله تعالى بحفظه، ويحرسه بعينه التي لا تنام، وينصره بعزه الذي لا يضام، ويغفر ذنبه، ويستر عيبه، ويثقل ميزانه، ويبيض وجهه، ويدخله جنته، ومستقر رحمته..

{﴿ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوٓا۟ إِيمَٰنًا مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾﴿ لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ }

زوال الدنيا بما عليها، وذهاب هذه السموات وما أظلت ، وذهاب هذه الأرض وما أقلت ، أهون على الله تعالى من أن تمس من مؤمن شعرة..

قال النبي عليه الصلاة والسلام«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا»

تهدم الكعبة، وتنقض حجراّ حجراً، ولا أن تقال كلمة سوء في حق إنسان مؤمن ..

اخرج ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمر قال: رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَطوفُ بالكعبةِ وهوَ يقولُ «ما أطيبَكِ وأطيبَ ريحَكِ ما أعظمَكِ وأعظمَ حرمَتكِ والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لحُرمةُ المؤمنِ أعظمُ حُرمةً عِندَ اللهِ مِنكِ مالُهُ ودمُهُ وأنْ يُظنَّ بهِ إلا خيرًا» ..

من آذى مؤمناً، أو ظلمه، أو هضمه حقه، فقد برأت منه ذمة الله تعالى..

من عادى مؤمناً عاداه الله، ومن حارب مؤمنا ً حاربه الله، ومن تتبع عورة مؤمن تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته..

{﴿ أَلَآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ ﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَكَانُوا۟ يَتَّقُونَ ﴾﴿ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْءَاخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾}

وفي المقابل من أسدى إلى مؤمن معروفاً فأطعمه أو سقاه أو كياه أو أجله أو أكرمه أو أسعده أو خفف عنه كان له عظيم الأجر عند الله تبارك وتعالى..

وفي سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ ، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ في الدُّنيا يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدُّنيا والآخرةِ ، ومن سَترَ على مُسلمٍ في الدُّنيا سترَ اللَّهُ علَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ ، واللَّهُ في عونِ العَبدِ ، ما كانَ العَبدُ في عونِ أخيهِ»

من أبواب العلم:

التي اهتمت بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم باب يعرف بباب الشمائل النبوية، هذه الشمائل النبوية عنيت أكثر ما عنيت بالحديث عن الصفات الخلقية للنبي عليه الصلاة والسلام..

وفي هذا الباب يذكر أن النَّبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان بساماً، متفاءلاً وَدودًا لَطيفًا، يُداعِبُ أصحابَهُ، ويُلاطِفُهم، ويُمازِحُهم، ويَضْحَكُ معَهم، ولا يَقولُ في الرضا والغضب إلا صِدْقًا.

ورد فيما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أنسٍ بن مالك رضي الله عنه أنَّ رجُلًا مِن أهلِ البادِيَةِ اسمُه زاهِرٌ بنُ حَرامٍ الأَشْجَعيُّ، وكان زاهر رضي الله عنه قد شَهِدَ بَدْرًا مع النبي علي الصلاة والسلام..

وفيه وفي أمثاله من أهل بدر قال النبي عليه الصلاة والسلام « لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»

كان زاهِرٌ بنُ حَرامٍ يكن الصحراء وكان كلما قدم المدينة نزل ضيفاً على رسول الله، وكان كثيراً ما يُهدي للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم ممَّا يُوجَدُ في البادية منَ الأَزْهارِ، والأَثْمارِ، والنَّباتِ، وكان النبي أيضاً إذا أتي البادية نزل ضيفاً على زاهر بن حرام وكان الرسول أيضاً يهدي زاهر من طعام الحضر ونباتهم وثمارهم..

حتى أثر عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم قوله : «زاهِرٌ بادِيَتُنا ونحنُ حاضِرَتُه» ..

ورد في صفة زاهر بن حرام رضي الله عنه أنه كان دَميمَ الخِلقَةِ.. والمعني (ان حظه من جمال الخلقة كان محدوداً )..

وفي يوم من الأيام قدم زاهر بن حرام السوق يبيع متاعاً له فأتاه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وهو يَبيعُ شيئًا له في السُّوقِ فأراد الرسول الكريم ان يمازحه وأن يضاحكه فاحتَضَنه مِن خَلفِه بيد، ووضع اليد الثانية على عينيه، وجَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم يقولُ: « مَنْ يَشْتَري مِني هذا العَبْدَ؟ وزاهر يقول : مَن هذا ؟ أَرسِلْني ، أرسلني» ..

قال أنس: «والتَفَت زاهر بطرف بصره فعرَف النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم فجعَل النبي صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم يقولُ: مَن يَشتَري مِنِّي هذا العبدَ ؟ وجعَل هو يَلصِقُ ظهرَه بصدرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم ويقولُ: أتبيعني يا رسول الله؟ والرسول يقول نعم: فيقول زاهر عطفاً على ضعفه وفقره ودمامته إذًا تَجِدُني كاسِدًا يا رسول الله ، فيقول له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ولكنَّكَ عِندَ اللهِ لستَ بكاسِدٍ، وفي رواية قال ولكنك عند الله غالٍ» ..

هذا الأثر ما دلالته؟

هذا الأثر له دلالات عظيمة..

أول هذه الدلالات:

سماحة أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بين دلالاته بيان تواضع النبي عليه الصلاة والسلام ، وبيان حسن عشرته، فعلى الرغم من حمله الثقيل ( حمل الدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد) إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يعطي نفسه نصيباً من الترويح والابتسامة والدعابة مع أصحابه بما لا يتنافى مع كمال خلقه وصدقه وهيبته ووقاره عليه الصلاة والسلام..

ومن دلالات هذا الأثر بين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبين صديقه زاهر بن حرام رضي الله عنه: بيان أن الله تعالى ينظر إلى قلوب العباد، وإلى نواياهم، وإلى صالح أعمالهم، ولا ينظر إلى صورهم ولا إلى ألوانهم ولا أجسامهم، كان زاهر بن حرام دميم الظاهر لكنه كان جميل الباطن حسن النية عامر القلب بالإيمان..

قال النبي عليه الصلاة والسلام ««إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»»

كان زاهر بن حرام دميم الخلقة فقيراً ضعيفاً فأمسك به رسول الله وداعبه وجعل يقول في الناس من يشتري هذا العبد ؟

قال تجدني كاسدا يا رسول الله فقال النبي ولكنك عند الله غال..

وفي الحديثِ: مَنْقَبةُ عظيمة وفَضْلُ كبير زاهِرِ بنِ حَرامٍ رضِيَ اللهُ عنه إذ قال له النبي عليه الصلاة والسلام ولكنك عند الله غالٍ ..

وفي الأثر أيضاً ومن أعظم الدلالات بيان كرامة المؤمن عند الله تعالى وأن جمال المؤمن في إيمانه، وفي تقواه وفي حسن أخلاقه ومعاملاته

لا في ماله فقط، ولا في حسبه فقط، ولا في نسبه فقط، ولا في جمال صورته فقط، وإنما جمال المؤمن كل الجمال في إيمان القلب وخشيته ومحبته لله رب العالمين

{﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ ﴾﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ ﴾}

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا آنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شئ قدير.

الخطبة الثانية

إذا كان الإيمان هو أساس كرامة المؤمن عند الله تعالى فعلى المؤمن أن يهتم بإيمانه تثبيتاً وتأكيداً وترميماً وتجديداً..

اهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد الإيمان بطاعة الرحمن، وينقص الإيمان بالفسق والعصيان..

قال النبي عليه الصلاة والسلام « إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ »

من هنا قد يشتكي الإيمان في قلب أحدنا خللاً، وضعفاً وتصدعاً بسبب وقوع الإنسان في الإثم والعدوان..

الإيمان يتأثر، الإيمان يتصدع، وربما الإيمان ينتزع انتزاعاً من قلب الرجل في وقت من الأوقات..

ورد فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم قوله: « لا يَزني العبدُ حينَ يزني وَهوَ مؤمنٌ ، ولا يَشربُ الخمرَ حينَ يشربُها وَهوَ مؤمنٌ ، ولا يَسرقُ حينَ يسرقُ وَهوَ مؤمنٌ »

قيل لابنِ عبَّاسٍ : راوي هذا الحديث.. كيفَ يُنتَزَعُ الإيمانُ منهُ ؟ فشبَّكَ أصابعَهُ ، ثمَّ أخرجَها ، فقالَ : هَكَذا ، فإذا تابَ عادَ إليهِ هَكَذا ، وشبَّكَ أصابعَهُ..

من هنا كان على الإنسان أن يهتم لإيمانه فيرممه ويثبته ويعززه ويجدده أولاً بأول، بالذكر والشكر وفعل الخيرات وعمل الصالحات..

عقيدة أهل السنة أن الذنوب لا تخرج الإنسان عن الملة، لكنها تزلزل إيمانه وتضعفه لذلك على العبد إن وقع في ذنب أن يتوب من ذلك الذنب وأن يستعين بالله تعالى على عدم العود إليه وأن يرمم المواضع التي تصدعت في إيمانه في أواخر سورة مريم أكد الحكيم العليم على هذا المعنى بقوله تعالى ﴿ فَخَلَفَ مِنۢ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلشَّهَوَٰتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَأُو۟لَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْـًٔا ﴾.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا آنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شئ قدير.

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.