طريق الإسلام

قال الذين يريدون الحياة الدنيا

منذ 2024-12-08

إلا أنّ الغريب في الأمر أن أقوامًا عطَّلوا تلك العقول، فضلَّلتهم الأخبار، وبَهرتهم الأنوار، فخطفت منهم الأبصار، فأُصيبوا بعمى الألوان، فلا يكادون يُميِّزون بين الأخضر والأزرق!

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وبعد:

منَح الله الإنسان عقلًا مُفكرًا، يُميِّز به بين الحَسن والقبيح، وبين الخير والشر، فحُسْن الأشياء وقُبْحها يُمكِن للعقل البشري أن يُدركه، بل إنَّ طرفًا منه موجودٌ لدى البهائم، بما يُعْرَف بالعقل المعيشي، بالقَدْر الذي يكفي لمصالحها المَعاشية.

إلا أنّ الغريب في الأمر أن أقوامًا عطَّلوا تلك العقول، فضلَّلتهم الأخبار، وبَهرتهم الأنوار، فخطفت منهم الأبصار، فأُصيبوا بعمى الألوان، فلا يكادون يُميِّزون بين الأخضر والأزرق!

رجل يُقِرّ على الملأ ببشَريته {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47]، ثم يَقبلون منه دعواه {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، ويسوق بين يديه ويَجُرّ مِن خلفه جموعًا غفيرة من البهائم البشرية؛ {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54].

ويتكرَّر المشهد بعينه مع المبهورين بأُبَّهة قارون؛ {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم} [القصص: 79]، وهناك.. خلف هذه الجموع المفتونة تقف فئة تنعم بنور العقل والحكمة؛ {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُون}[القصص: 80]، ولا تستفيق تلك الجموع المُضلَّلة إلا بعد فوات الأوان، وانطفاء الأضواء، وخفوت البريق؛ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81]، هناك تنجلي الغُمَّة، وتزول الغشاوة؛ {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُون} [القصص: 82].

وهذا المشهد ذاته يتكرر اليوم مع جموع غفيرة -وكأنَّ الطبيعة البشرية لا تتغير-؛ فتبهرهم منجزات دنيوية -حقيقية، أو زائفة- على أنقاض مُسلَّمات عَقَدية، يتعامون عنها، فهل سفلت بهم الحال إلى أن يكونوا ممن {وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون} [يونس: 7]، فلا يصدر هذا إلا من أناسٍ {اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 107]، إما جملةً، وإما في كثير من شؤون حياتهم؛ فالأمر إذًا جدُّ خطير.