فتح الباري: باب الصلاة عند مناهضة الحصون

منذ 2024-12-16

جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى:

باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو وقال الأوزاعي إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا وبه قال مكحول وقال أنس بن مالك حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا وقال أنس بن مالك وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها

حدثنا يحيى بن جعفر البخاري قال حدثنا وكيع عن علي بن مبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال  «جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فقال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا والله ما صليتها بعد قال فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها» .

قال الإمام ابن حجر:

قوله : ( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ) أي عند إمكان فتحها ، وغلبة الظن على القدرة على ذلك .

قوله : ( ولقاء العدو ) وهو من عطف الأعم على الأخص ، قال الزين بن المنير : كأن المصنف خص هذه الصورة لاجتماع الرجاء والخوف في تلك الحالة ، فإن الخوف يقتضي مشروعية صلاة الخوف والرجاء بحصول الظفر يقتضي اغتفار التأخير لأجل استكمال مصلحة الفتح ، فلهذا خالف الحكم في هذه الصورة الحكم في غيرها عند من قال به .

 قوله : ( وقال الأوزاعي إلخ ) كذا ذكره الوليد بن مسلم عنه في كتاب السير .

قوله : ( إن كان تهيأ الفتح ) أي تمكن ، وفي رواية القابسي " إن كان بها الفتح " بموحدة وهاء الضمير وهو تصحيف .

قوله : ( فإن لم يقدروا على الإيماء ) قيل : فيه إشكال لأن العجز عن الإيماء لا يتعذر مع حصول العقل ، إلا أن تقع دهشة فيعزب استحضاره ذلك ، وتعقب . قال ابن رشيد : من باشر الحرب واشتغال القلب والجوارح إذا اشتغلت عرف كيف يتعذر الإيماء ، وأشار ابن بطال إلى أن عدم القدرة على ذلك يتصور بالعجز عن الوضوء أو التيمم للاشتغال بالقتال ، ويحتمل أن الأوزاعي كان يرى استقبال القبلة شرطا في الإيماء فيتصور العجز عن الإيماء إليها حينئذ .

قوله : ( فلا يجزيهم التكبير ) فيه إشارة إلى خلاف من قال يجزئ كالثوري ، وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء وسعيد بن جبير وأبي البختري في آخرين قالوا : إذا التقى الزحفان وحضرت الصلاة فقولوا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فتلك صلاتهم بلا إعادة " وعن مجاهد والحكم : إذا كان عند الطراد والمسابقة يجزئ أن تكون صلاة الرجل تكبيرا ، فإن لم يكن إلا تكبيرة واحدة أجزأته أين كان وجهه . وقال إسحاق بن راهويه : يجزئ عند المسابقة ركعة واحدة يومئ بها إيماء ، فإن لم يقدر فسجدة فإن لم يقدر فتكبيرة .

قوله : ( وبه قال مكحول ) قال الكرماني : يحتمل أن يكون بقية من كلام الأوزاعي ، ويحتمل أن يكون من تعليق البخاري . انتهى . وقد وصله عبد بن حميد في تفسيره عنه من غير طريق الأوزاعي بلفظ " إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا على الأرض صلوا على ظهر الدواب ركعتين ، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا أخروا الصلاة حتى يأمنوا فيصلوا بالأرض " .

( تنبيه ) : ذكر ابن رشيد أن سياق البخاري لكلام الأوزاعي مشوش ، وذلك أنه جعل الإيماء مشروطا بتعذر القدرة ، والتأخير مشروطا بتعذر الإيماء ، وجعل غاية التأخير انكشاف القتال ، ثم قال : أو يأمنوا فيصلوا ركعتين " فجعل الأمن قسيم الانكشاف يحصل الأمن فكيف يكون قسيمه ؟ وأجاب الكرماني عن هذا بأن الانكشاف قد يحصل ولا يحصل الأمن لخوف المعاودة ، كما أن الأمن يحصل بزيادة القوة واتصال المدد بغير انكشاف ، فعلى هذا فالأمن قسيم الانكشاف أيهما حصل اقتضى صلاة ركعتين . وأما قوله : " فإن لم يقدروا " فمعناه على صلاة ركعتين بالفعل أو بالإيماء " فواحدة " وهذا يؤخذ من كلامه الأول قال " فإن لم يقدروا عليها أخروا " أي حتى يحصل الأمن التام . والله أعلم .

قوله : ( وقال أنس ) وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه ، وذكره " خليفة في تاريخه " وعمر بن شبة في " أخبار البصرة " من وجهين آخرين عن قتادة ، ولفظ عمر " سأل قتادة عن الصلاة إذا حضر القتال فقال : حدثني أنس بن مالك أنهم فتحوا تستر وهو يومئذ على مقدمة الناس وعبد الله بن قيس - يعني أبا موسى الأشعري - أميرهم " .

[ ص: 505 ] قوله : ( تستر ) بضم المثناة الفوقانية وسكون المهملة وفتح المثناة أيضا بلد معروف من بلاد الأهواز ، وذكر خليفة أن فتحها كان في سنة عشرين في خلافة عمر ، وسيأتي الإشارة إلى كيفيته في أواخر الجهاد إن شاء الله تعالى .

قوله : ( اشتعال القتال ) بالعين المهملة .

قوله : ( فلم يقدروا على الصلاة ) يحتمل أن يكون للعجز عن النزول ، ويحتمل أن يكون للعجز عن الإيماء أيضا ، فيوافق ما تقدم عن الأوزاعي ، وجزم الأصيلي بأن سببه أنهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلا من شدة القتال .

قوله : ( إلا بعد ارتفاع النهار ) في رواية عمر بن شبة " حتى انتصف النهار " .

قوله : ( ما يسرني بتلك الصلاة ) أي بدل تلك الصلاة ، وفي رواية الكشميهني " من تلك الصلاة " .

قوله : ( الدنيا وما فيها ) في رواية خليفة : الدنيا كلها ، والذي يتبادر إلى الذهن من هذا أن مراده الاغتباط بما وقع ، فالمراد بالصلاة على هذا هي المقضية التي وقعت ، ووجه اغتباطه كونهم لم يشتغلوا عن العبادة إلا بعبادة أهم منها عندهم [1] ، ثم تداركوا ما فاتهم منها فقضوه ، وهو كقول أبي بكر الصديق " لو طلعت لم تجدنا غافلين " وقيل : مراد أنس الأسف على التفويت الذي وقع لهم ، والمراد بالصلاة على هذه الفائتة ومعناه : لو كانت في وقتها كانت أحب إلي فالله أعلم ، وممن جزم بهذا الزين بن المنير فقال : إيثار أنس الصلاة على الدنيا وما فيها يشعر بمخالفته لأبي موسى في اجتهاده المذكور ، وأن أنسا كان يرى أن يصلي للوقت وإن فات الفتح ، وقوله هذا موافق لحديث " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " انتهى ، وكأنه أراد الموافقة في اللفظ ، وإلا فقصة أنس في المفروضة والحديث في النافلة ، ويخدش فيما ذكره عن أنس من مخالفة اجتهاد أبي موسى أنه لو كان كذلك لصلى أنس وحده ولو بالإيماء لكنه وافق أبا موسى ومن معه فكيف يعد مخالفا ؟ والله أعلم .

قوله : ( حدثنا يحيى حدثنا وكيع ) كذا في معظم الروايات ، ووقع في رواية أبي ذر في نسخة " يحيى بن موسى " وفي أخرى " يحيى بن جعفر " وهذا المعتمد ، وهي نسخة صحيحة بعلامة المستملي ، وفي بعض النسخ " يحيى بن موسى بن جعفر " وهو غلط ولعله كان فيه يحيى بن موسى وفي الحاشية ابن جعفر على أنها نسخة فجمع بينهما بعض من نسخ الكتاب ، واسم جد يحيى بن موسى عبد ربه بن سالم وهو الملقب خت بفتح المعجمة بعدها مثناة فوقانية ثقيلة ، واسم جد يحيى بن جعفر أعين وكلاهما من شيوخ البخاري وكلاهما من أصحاب وكيع .

قوله : ( عن جابر ) تقدم الكلام على حديثه في أواخر المواقيت ، ونقل الاختلاف في سبب تأخير الصلاة يوم الخندق هل كان نسيانا أو عمدا ، وعلى الثاني هل كان للشغل بالقتال أو لتعذر الطهارة أو قبل نزول آية الخوف ؟ وإلى الأول وهو الشغل جنح البخاري في هذا الموضع ونزل عليه الآثار التي ترجم لها [ ص: 506 ] بالشروط المذكورة ، ولا يرده ما تقدم من ترجيح كون آية الخوف نزلت قبل الخندق لأن وجهه أنه أقر على ذلك ، وآية الخوف التي في البقرة لا تخالفه لأن التأخير مشروط بعدم القدرة على الصلاة مطلقا ، وإلى الثاني جنح المالكية والحنابلة لأن الصلاة لا تبطل عندهم بالشغل الكثير في الحرب إذا احتيج إليه ، وإلى الثالث جنح الشافعية كما تقدم في الموضع المذكور ، وعكس بعضهم فادعى أن تأخيره - صلى الله عليه وسلم - للصلاة يوم الخندق دال على نسخ صلاة الخوف ، قال ابن القصار : وهو قول من لا يعرف السنن ، لأن صلاة الخوف أنزلت بعد الخندق فكيف ينسخ الأول الآخر ؟ فالله المستعان .