سوريا ما بعد الأسد: خريطة القوى والنفوذ والمصالح

منذ يوم

مَثـَّل السقوط السريع لنظام الأسد في سوريا الكثير من التحديات داخليا وخارجيا وخلط العديد من الأوراق في المنطقة، الأمر الذي دفع إلى تحول كبير وعميق للقوى الفاعلة إقليميا ودوليا تتقاطع فيه المصالح وتتصادم فيه الاستراتيجيات.

في خضم مشهد سياسي متشابك وأحداث متسارعة، يدخل المشهد السوري منعطفًا جديدًا بعد رحيل بشار الأسد عن السلطة، وغياب العائلة الأسدية بعد أكثر من 50 عامًا عن سدة الحكم، ليكشف عن صراع يتجاوز كونه نزاعًا داخليًا إلى ساحة مفتوحة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية، فالانهيار المفاجئ للنظام واندلاع صراعات السيطرة بين فصائل المعارضة والقوى الأجنبية يثير تساؤلات مصيرية: هل ستتمكن القوى الصاعدة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، من صياغة مستقبل مستقر لسوريا أم أن البلاد ستظل عالقة في دوامة الفوضى؟، هذا التحول الحاسم لا يقتصر أثره على الداخل السوري، بل يعيد تشكيل التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط كله، تاركًا المجال مفتوحًا أمام تحديات هائلة وفرص محدودة لحكم فعّال وهدوء مستدام.

معادلة جيوسياسية معقدة

لا شك أن انهيار نظام بشار الأسد يمثل لحظة فاصلة في السياسة في الشرق الأوسط، لقد كان التفكك السريع للنظام أمرًا لا يمكن تصوره بالنسبة للكثيرين، ومع ذلك فقد تحقق في أقل من أسبوعين عندما اجتاحت قوات المعارضة مساحات شاسعة من البلاد، هذا الحدث الزلزالي لا يعيد تشكيل الديناميكيات الداخلية لسوريا فحسب، بل يمهد الطريق أيضًا لمرحلة جديدة من الجغرافيا السياسية الإقليمية، فالفروق الدقيقة في سقوط الأسد، وصعود تحالفات قوى المعارضة، والتفاعل المعقد بين الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية تستحق فحصًا أعمق لفهم التحديات والإمكانيات في حقبة ما بعد الأسد في سوريا.

فبعد سقوط نظام الأسد لا زالت تعتري سوريا الكثير من التحديات، فوجود الأكراد في الشمال، والضغوط الصهيونية والبنية التحتية المدمرة تشكل عقبات كبيرة أمام إعادة الاستقرار بسرعة، فالمعارضة السورية تحتاج إلى تمتين وحدتها، يُضاف إلى ذلك معضلة إعادة الإعمار، فقد دمرت سنوات الحرب البنية التحتية في سوريا، مما ترك البلاد بمهمة ضخمة تتمثل في إعادة البناء والتي من المتوقع أن تستغرق عقودًا وتكلف مليارات الدولارات، ناهيك عن أن تنظيم داعش ما زال موجودا داخل سوريا وهناك مؤشرات عن بدأ استغلاله من قبل إيران الخاسر الأكبر من سقوط نظام الأسد.

 

كان بقاء الأسد خلال معظم فترة القتال مع المعارضة يرجع إلى حد كبير إلى تدخل قوى خارجية مثل روسيا وإيران وحزب الله، لقد ساعدته القوة الجوية الروسية والميليشيات الإيرانية على استعادة الأراضي

لماذا انهار النظام؟

لقد اعتمد نظام بشار الأسد لفترة طويلة على مزيج من القمع والدعم الأجنبي ورعاية النخبة للحفاظ على السلطة، ومع ذلك، بحلول عام 2024م، اتسعت الشقوق في هذا الأساس بشكل لا يمكن إصلاحه، وقد ساهمت عدة عوامل رئيسية في انهيار هذا النظام، أهمها:

التدهور الاقتصادي:

لقد دمرت سنوات من العقوبات الدولية والفساد المستشري وفقدان القدرة على الوصول إلى المناطق الغنية بالنفط والدمار الشامل الناجم عن الصراع، الاقتصاد السوري بشكل كبير، وكانت البنية الأساسية والصناعات والخدمات العامة في حالة يرثى لها.

تآكل التماسك العسكري:

كان الضغط المالي محسوسًا بشدة داخل الجيش السوري، حيث كان الجنود يتقاضون أجورًا زهيدة وتجهيزات رديئة، وقد أدى هذا التدهور الاقتصادي إلى استنزاف الروح المعنوية بين أنصار الأسد وتآكل تماسك الجيش العربي السوري، وكانت النتيجة لذلك هو تفكك الجيش السوري، الذي أضعفته بالفعل سنوات من الاستنزاف والانشقاقات، في مواجهة هجوم المعارضة، فترك الجنود مواقعهم، واستسلموا جماعيًا، أو فروا من البلاد.


ميليشيات الشبيحة:

اعتمد الأسد بشكل متزايد على الميليشيات وسماسرة السلطة المحليين للحفاظ على قبضته على السلطة. ومع ذلك أثبتت هذه القوات المجزأة والمنظمة بشكل سيئ، والتي اتسمت بالافتقار إلى التماسك والتدريب والانضباط، أنها غير مستقرة للغاية، حالة عدم الاستقرار تلك كانت واضحة للغاية عند انهيارها السريع، وخسارة مدن رئيسية مثل حلب وحمص، وهي مركز لوجستي بالغ الأهمية، وسقوط هذه المدن وجّه ضربة حاسمة لنظام الأسد، وقطع وصوله إلى المعاقل الساحلية وتعطيل الممر البري الاستراتيجي لإيران إلى حزب الله في لبنان، ونتيجة لذلك تم إعاقة قدرة النظام على شن دفاع موثوق به بشكل فعال.


الاعتماد المفرط على الأجانب:

كان بقاء الأسد خلال معظم فترة القتال مع المعارضة يرجع إلى حد كبير إلى تدخل قوى خارجية مثل روسيا وإيران وحزب الله، لقد ساعدته القوة الجوية الروسية والميليشيات الإيرانية على استعادة الأراضي، لكن هذا الاعتماد على القوات الأجنبية كشف عن ضعف النظام، وبحلول عام 2024، واجهت كل من روسيا وإيران ضغوطهما الداخلية والخارجية - روسيا مع حرب أوكرانيا وإيران مع التوترات الإقليمية المستمرة - مما جعلهما غير قادرين على دعم الأسد كما كانا في الماضي.


صعود قوى المعارضة:

كان هجوم قوى المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام والذي أطاح بالأسد مبني على إطار مؤسسي قوي وتكتيكات متطورة، وقد اتضح ذلك من خلال القدرة على التنسيق مع الفصائل الأخرى، وهو مكّن المعارضة من استغلال نقاط ضعف النظام، وعلاوة على ذلك على الرغم من أن تركيا لم تعترف علنًا بدعمها للمعارضة، فإن نفوذها لا يمكن إنكاره.

 

ذلك فسقوط نظام الأسد جعل فموقف طهران صعبًا، وهذا ما سيجعلها تعيد حساباتها وتحاول الرجوع مرة أخرى لسوريا والبحث عن أذرع جديدة داخل سوريا تعيق الوصول لمرحلة الاستقرار.


خريطة المصالح:

سقوط الأسد شكل لكثير من القوى الإقليمية والدولية العديد من التحديات، فبينما تسعى الدول الغربية لتقليص نفوذ روسيا وإيران في سوريا ووقف المجازر التي يتم ارتكابها هناك، فإن معظم هذه الدول لا ترغب في رؤية نظام إسلامي يتولى السلطة بدلاً من الأسد، يمكن قراءة خريطة المصالح في سوريا الجديدة بعد الأسد على النحو التالي:


إيــران:

استثمرت إيران بشكل كبير في بقاء الأسد واستخدمت إيران سوريا كجسر استراتيجي لتعزيز نفوذها الإقليمي، من خلال وكلائها مثل حزب الله، ومع ذلك فإن انهيار النظام وسيطرة المعارضة على البلاد يضع هذا الاستثمار في خطر كبير، ويتزايد هذا الخطر ليشمل حزب الله أيضا، لا سيما بعد أن أضعفته المواجهات المستمرة مع إسرائيل مؤخرًا، ما أجبره على سحب معظم قواته من سوريا للتركيز على الحدود اللبنانية، ويزداد الأمر سوءًا مع سقوط نظام الأسد حيث سيؤدي ذلك إلى تعطيل طرق الإمداد الإيرانية بشكل أكبر، وهو ما اعترف به الأمين العام للحزب نعيم قاسم بالفعل في تصريحاته الأخيرة، وعلى ذلك فسقوط نظام الأسد جعل فموقف طهران صعبًا، وهذا ما سيجعلها تعيد حساباتها وتحاول الرجوع مرة أخرى لسوريا والبحث عن أذرع جديدة داخل سوريا تعيق الوصول لمرحلة الاستقرار.


إسرائيل:

في حين أن سقوط الأسد يضعف محور إيران وحزب الله، فإن صعود فصائل المعارضة الإسلامية السُنية بالقرب من حدود إسرائيل في مرتفعات الجولان يفرض تحديات جديدة، وعلى الرغم من أن نظام الأسد لم يشكل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل، فإنه سمح لإيران باستخدام الأراضي السورية كقاعدة لنقل الأسلحة إلى حزب الله، ومع ضعف حزب الله نتيجة التصعيد الأخير مع إسرائيل، استفادت المعارضة من هذا الوضع لتعزيز هجماتهم على النظام، لكن الديناميكيات طويلة الأجل لا تزال غير مؤكدة، ولا شك أن إسرائيل سوف تحتاج إلى موازنة مصالحها بعناية مع تطور المشهد السياسي في سوريا، لكن بشكل عام فإن إزاحة الأسد عن السلطة استغلتها تل أبيب في إنشاء مناطق عازلة لحماية مصالحها.


روســيا:

منذ تدخلها العسكري في سوريا في عام 2015م، أصبحت روسيا الحليف الأبرز لنظام الأسد، حيث لعبت دورًا حاسمًا في استعادة السيطرة على مدن رئيسية مثل حلب، وكانت سوريا محورًا استراتيجيًا لها في الشرق الأوسط، حيث وفرت لها الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط ​​​​عبر قاعدتها البحرية في طرطوس، ومع ذلك فإن الحرب في أوكرانيا استنزفت موارد موسكو، ما أثّر سلبًا على قدرتها على دعم النظام السوري بشكل فعال، وتعتبر خسارة سوريا تهديدًا استراتيجيًا كبيرًا لروسيا، حيث إنها تُضعف مكانتها كقوة عظمى في المنطقة، ويضر بمصداقيتها كحليف، كما يعقّد طموحات روسيا الإقليمية ويثير تساؤلات حول مستقبل وجودها العسكري في المنطقة، لقد استخدمت روسيا سوريا كرأس جسر للحفاظ على وجودها في أفريقيا، وخسارة هذه النقطة القوية من شأنها أن يكون لها تأثير مدمر على عملياتها في ليبيا والسودان ومنطقة الساحل، وسيعمل الكرملين على تعويض خسائره في سوريا من خلال زيادة وجوده في تلك البلدان الأفريقية، ولكن هذا سينجح في ذلك؟.


تـركـيا:

لطالما دعمت تركيا المعارضة السورية منذ فترة طويلة، كجزء من استراتيجيتها لمواجهة القوات الكردية في شمال شرق سوريا، وفي نفس الوقت كانت تسعى أنقرة للحفاظ على علاقات مستقرة مع نظام الأسد، وقد دفعها التقدم الأخير للمعارضة إلى تقديم الدعم لها لتكتسب نفوذًا في تشكيل مستقبل سوريا، لا سيما وأنها من جهة أخرى تسعى إلى معالجة ملف اللاجئين السوريين داخل أراضيها، ومعارضتها للحكم الذاتي الكردي، وهو ما يجعل الوضع السوري دائما أولوية قصوى في سياستها الخارجية.


الولايات المتحدة:

لقد قلصت الولايات المتحدة مشاركتها المباشرة في سوريا، وأعادت تركيز جهودها على الاستفادة من الشراكة الاستراتيجية مع إسرائيل لتقييد أنشطة إيران، وحماية المناطق الحيوية المنتجة للنفط، ومع رحيل الأسد، تواجه واشنطن معضلة التعامل مع صعود هيئة تحرير الشام، كما أن إحجام واشنطن عن الانخراط بعمق يترك فراغًا يمكن لقوى أخرى أن تملأه، في مقدمتها تركيا. في عهد بايدن؛ اتسم النهج الأمريكي بالاستمرارية الحذرة بدلاً من الاستراتيجية التحويلية، ففي حين حافظ على وجود عسكري محدود في شرق سوريا، أعطى بايدن الأولوية لخفض التصعيد وامتنع إلى حد كبير عن المبادرات الجديدة المهمة، وقد ترك الانخراط المحدود للإدارة فراغًا كثفت فيه الجهات الفاعلة المتنافسة الأخرى أنشطتها، ومن المرجح أن يعكس دونالد ترامب هذا النهج تجاه سوريا في ظل ما يتشكل من الحقائق الجديدة على الأرض، وتشير أفعاله السابقة إلى التركيز على النتائج الفورية بدلاً من الاستراتيجية الشاملة، ومع ذلك فإن تاريخ ترامب من القرارات المفاجئة وتأكيده على الانسحاب من "الحروب التي لا تنتهي" قد يدفع أيضًا إلى مزيد من خفض التدخل العسكري الأمريكي.


الدول العربية:

يمثل تقدم المعارضة السورية وصولها إلى السلطة اختبارًا فعليًا لالتزام الدول العربية بمستقبل سوريا، ففي ذروة الحرب الأهلية السورية، قطعت العديد من الدول العربية السنية علاقاتها مع النظام ودعمت جماعات المعارضة للإطاحة به، لكن تغيرت الأمور مع صمود الأسد واستعادته السيطرة على معظم الأراضي السورية بمساعدة روسيا وإيران، وفي ظل العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، أصبحت البلاد ملاذًا لصناعة المخدرات، ومع ذلك فقد قادت بعض الدول العربية جهود إعادة تأهيل النظام السوري، وأعيدت سوريا إلى جامعة الدول العربية في عام 2023م، على أمل أن إعادته إلى الحاضنة العربية سيغيّر من سياساته.


مستقبل مجهول:

ما حدث مؤخرًا في سوريا يذكرنا بأن التغييرات في أوقات الاضطرابات الجيوسياسية الكبرى قد تكون غير متوقعة ومفاجئة، فالأنظمة التي بدت مستقرة نسبيًا قد تنهار في غضون أيام، وكل الجهات الفاعلة تفحص الأفق للاستفادة من اختلال التوازن ولحظات عدم الاستقرار، وواهم من يظنّ أن الاضطرابات في الشرق الأوسط على وشك الانتهاء، وستظل الثورة السورية على نظام عائلة الأسد القمعي رمزا لعجز المجتمع الدولي عن معالجة الصراعات المعقدة والمتعددة الأوجه بشكل فعال، فسيطرة المعارضة لا تسلط الضوء على هشاشة النظام السوري المجرم فحسب، بل توضح أيضا كيف يمكن للجهات الفاعلة الإقليمية استغلال لحظات التحول الجيوسياسي، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية في تعقيد المشهد، ومع سيطرة المعارضة على المشهد السياسي، تبقى التساؤلات حول مستقبل البلاد مفتوحة على جميع الاحتمالات؛ فهل ستتمكن القوى الإقليمية والدولية من التوصل إلى توافق يضمن استقرار سوريا؟

_______________________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر