عناية الله بهذه الأمة
لقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في ضلال مبين على أعلى المستويات وأدناها، وبينما هم على هذه الحالة المزرية، إذ بعث الله عز وجل نبيًّا ورسولًا وهاديًا وبشيرًا؛ ليخرج هؤلاء وغيرهم من الظلمات إلى النور
لقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في ضلال مبين على أعلى المستويات وأدناها، وكان ضلالهم في معتقداتهم وبيوعهم ومشترياتهم، وهكذا الضلال في أخلاقهم وسلوكهم، وكانوا يعيشون في ضلال في أنكحتهم، يعيشون ضلالًا عامًّا شاملًا، وهو ضلال بيِّن ليس بخافٍ على أحد، بل معلوم لدى كل مبصر وسامع، كانوا يعيشون في مثل هذه الضلالات، لا يحكمهم قانون ولا يسوسهم نظامٌ، يتناحرون ويتقاتلون فيما بينهم، ومثال الحال:
إذا بلغ الصبي لنا فطامًـا ** تَخِرُّ له الجبابرُ ساجديــــــن
ألا لا يَجهلنْ أحدٌ علينــا ** فنجهل فوقَ جهل الجاهلين
وبينما هم على هذه الحالة المزرية، إذ بعث الله عز وجل نبيًّا ورسولًا وهاديًا وبشيرًا؛ ليخرج هؤلاء وغيرهم من الظلمات إلى النور؛ كما قال الحق جل وعلا: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 1، 2].
كان هذا النبي قد بعثه الله عز وجل من أجل أن يُخرج هؤلاء من الضلال المبين، وبأي شيء بعثه الله، يتَّضح هذا من خلال الآية السابقة والكتاب؛ أي: القرآن، والحكمة؛ أي: السنة، من أجل إصلاح هؤلاء وغيرهم؛ لذا يقول صلى الله عليه وسلم: «بُعثت بالحنيفية السمحة»، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأُتَمِّم مكارم الأخلاق». ولقد سأل هرقل عظيم الروم أبا سفيان بن حرب، ولم يكن قد أسلم بعد، قال: وبماذا يأمركم هذا الذي يزعم أنه نبي؟ قال: يأمُرنا بعبادة الله وحده وبصلة الأرحام، ويأمرنا بحسن الجوار، هذا النبي صلى الله عليه وسلم بُعث من أجل هذا الخلق العظيم، فعزَّ الله به بعد ذِلة، وكثَّر به بعد قِلَّة، وألَّف به بين أولئك الأقوام، وجعلهم جسدًا واحدًا كما يقول شاعر النيل:
أتطلبون من المختار معجزةً ** يَكفيه شعبًا من الأموات أحياءُ
فلاقى ما لاقى، واحتمل الأذى من قومه، كادوه بكل ما يستطيعون، لكن الله عاصمه من الناس، فكان يعرض نفسه بالمواسم على الناس القادمين إلى مكة يقول: «من يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة» ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تُفلحوا»، وانبرى له من انبرى من أعمامه وجيرانه، فكان أبو لهب وهو عبد العزى بن عبد المطلب من آل بني هاشم عم رسول الله، يتبعه فيرميه بالحجارة، يدمي كعبيه وعرقوبيه، ويقول: كذاب لا تصدِّقوه، ويحتمل رسول الله الأذى في ذلك، ومرة كان يصلي بجوار الكعبة، فقال بعضهم من ينطلق إلى جزور بني فلان، فيأتي بسلا ناقته، فيضعه على محمد إذا سجد، فتأتي ابنته فاطمة فتزيل ما على ظهر أبيها من الأذى، وتسب أولئك القوم، فيرفع الرسول يديه ويدعو عليهم فخافوا من دعائه، ولولا الله ثم ما كان من النصرة من عمه أبي طالب، ومن زوجته خديجه بنت خويلد، لكثُر الأذى أبعد من ذلك، وقرَّر مرة لِمَ لا يخرج على الناس وكان يرجو أن يقبل رسالته أهلُ الطائف، فخرج مع غلامه زيد بن حارثة يدعو أولئك الأقوام إلى الله سبحانه وتعالى، لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا، فقابَلوه بالصد والأذى، وسلطوا عليه صبيانهم وسفهاءَهم؛ لذا تقول عائشة: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أُحد، ويوم أحد هو يوم غزوة عظيمة يُقتل من أصحاب رسول الله أكثر من سبعين، ويُجرح أكثر من سبعين، وتُهشم البيضة على رأس رسول الله، وتدخل حلقتا المغفر في وجنته، ولولا أمر الله لأُلْحِق الأذى برسوله، وكان يومًا عظيمًا كما ذكره الله في سورة آل عمران: {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ} [آل عمران: 172]؛ أي: الآلام الشديدة، فتقول له عائشة: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، فيقول لها: نعم حينما خرجت إلى الطائف، أعرض نفسي على بني عبد يليل، فلم يقبلوا دعوتي، وسلطوا عليَّ سفهاءهم، فمشيت هاربًا على وجهي، فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب؛ أي: عند السيل الكبير، فإذا به ينظر إلى السماء فيرى جبريل، ويقول له جبريل: يا محمد، قد سمع الله ردَّ قومك لك، وما أجابوك وقد بعث إليك ملك الجبال، فإن شئتَ أن يُطبق عليهم الأخشبين لفعل، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا وإني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله».
رفض الدعوة أهل الطائف وأهل مكة، وبسبب هذه الرحلة العظيمة استفاد آخرون من رحلته إلى الطائف، فقد أسلم كثيرٌ من الجن في ليلة من تلك الليالي، التقى صلى الله عليه وسلم بالجن وعرَض عليهم الدين والإسلام، فأسلموا وعلى إثر ذلك نزل قول الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29].
هؤلاء رسل الجن مِن قِبَل رسولنا إلى أقوامهم من خلال مجلس واحد، وهكذا يمر رسول الله بمزرعة رجل، وإذا بغلام يأخذ قطفًا من عنب، فيذهب به إلى رسول الله، فقال له: «ما اسمك يا غلام» ؟ قال: اسمي عداس، قال: «ومن أي بلدة أنت» ؟ قال: من بلدة نينوى، قال: «وما دينك» ؟ قال نصراني، قال: «أنت من بلد يونس بن متى» ؟ قال: وما يدريك به؟ قال: «إنه نبي بعثه الله إلى تلك البلاد، وهو أخي فهو نبي وأنا نبي»، فآمن ذلكم الغلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فلما وصل رسول الله قافلًا من الطائف، يقول له غلامه زيد بن حارثة: كيف تستطيع أن تدخل مكة وقد أخرجوك منها؟ قال: «إن الله جاعل فرجًا ومخرجًا لنبيك يا زيد»، فلما قرب من مكة أرسل إلى المطعم بن عدي، وكان سيدًا على حي من أحياء قريش: أريد أن أدخل في جوارك، فهل ترضى، فأعاد عليه بالرضا، فدخل في جوار المطعم بن عدي، فكان صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت والمطعم وأولاده يحمون رسول الله بالسلاح، ولما كان يوم بدر وقد قُتل من المشركين سبعون رجلًا، ووصلت الأخبار إلى مكة، وجاء بعضهم يريد الأسرى، فيقول صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم بن عدي حيًّا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتُهم له، فما نسِي رسول الله معروف المطعم بن عدي، وهكذا لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذَووه، اعترف بفضله ومعروفه، مع أنه كان على الكفر والشرك، وهكذا يجب أن تستفيد من هذا؛ أي: أن يحفظ أهل المعروف لمن أسدى إليهم معروفًا تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مكة، سلَّاه الله سبحانه وتعالى بالإسراء والمعراج، كان الإسراء إلى المسجد الأقصى، وكان المعراج إلى السماوات العلى، وبعدها بقليل أذِن الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عند اشتداد الأذى أن يخرج من مكة مهاجرًا بعد الاعتداءات التي تعرَّض لها، لكنه ثبت صلى الله عليه وسلم، فقد جاء إليه بعض أهل الشرك وقالوا له: يا محمد، إن شئت مُلكًا ملكناك علينا، وإن شئت سيادة سيَّدناك علينا، وإن شئت مالًا جمعنا لك الأموال، حتى تكون من أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد النساء زوَّجناك من أجمل وأحسن بنات العرب، وإن كان الذي بك إنما هو جنون جمعنا لك الدواء والأطباء من أطراف الأرض، فقال: «لا وإنما أُريد من الناس أن يقولوا: لا إله إلا الله»، فلم يخضَع صلى الله عليه وسلم لِما عُرِضَ عليه مِن مُغريات الدنيا، وإنما نظرته إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال: إني أرجو أن يُخرج الله من هؤلاء مَن يقول لا إله إلا الله، فثبت صلى الله عليه وسلم، وبعد مدة يسيرة يؤذَن له بالهجرة، فيأتي إلى بيت أبي بكر في ساعة ظهيرة، لم يكن يخرج صلى الله عليه وسلم فيها، فيقول أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله ما جاء بك إلا حاجة في هذه الساعة، فلما وصل إلى بيته، قال: «أخرِج مَن في البيت»، قال: إنما هم أهلك يا رسول الله، قال: «إن الله أذِن لي بالهجرة» ، فلما كان من الليل، وكان الله حافظًا نبيه وصاحبَ نبيه أبا بكر الصديق، فدخلا غار ثور، فمكثا فيه ثلاثة أيام واستعان صلى الله عليه وسلم بالمال، ثم بعبد الله بن أُريقط؛ من أجل أن يُريَه الطريق إلى المدينة طريق المدينة الآمن، وكان أهل الشرك قد أقلَقهم ذلك وحيَّرهم، فوعدوا هنالك الجوائز والمغريات إلى مَن يرد رسول الله وصاحبه أبا بكر، ولكن الله سلم؛ يقول سبحانه وتعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
فقد مكثا ثلاثة أيام، وكفار قريش يرسلون أربعين من شبابهم، كلُّ واحد بيده السيف صلتًا؛ ليضرب رأس رسول الله، فتتوزع دماؤه بين القبائل، فلا يستطيع بنو عبد مناف أن تطالب الدماء من جميع القبائل، لكن الله سلَّم، فيقول أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ولو نظر أحدهم إلى شراك نعله لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحزَن إن الله معنا يا أبا بكر، ما ظنُّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»، فهذا عناية الله ومعية الله لأوليائه، وصدق إذ يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فيحتمل رسول الله الأذى في حال هجرته من مكة إلى المدينة، فيمر بخيمة أم مَعبد، فيشرب من عنز لم تكن حلوبًا، فأصابت بركته تلك الخيمة، فاستبشرتْ أم معبد وأبو معبد، ثم واصل المسيرة في قدر ثمانية أيام أو عشرة أيام، وكان باستقباله الأنصار الذين عناهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
فيَخرُجون لاستقباله، فلما خرج الأنصار فرحوا فرحًا عظيمًا، فكلُّ واحد يأخذ بزمام ناقته يريد أن يستضيف رسول الله، فيقول لهم الرسول: «خَلُّوا سبيلها فإنها مأمورة».
فلما وصلت دار أبي أيوب، بركت هنالك ليكون ضيف أبي أيوب الأنصاري، وعندما وصل رسول الله المدينة النبوية، كان أهل المدينة في سعادة تغمرهم جميعًا، ففي اليوم الثاني اشترى رسول الله أرضًا، بل وهبه بنو النجار أرضًا؛ ليبني بها مسجده النبوي، وآخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، ونستفيد عبرًا وعظاتٍ منها يا عباد الله التوكلُ على الله سبحانه وتعالى، فقد توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه حينما خرج من مكة، وهكذا تستفيد أمرًا وهو أن الحق والباطل في صراعٍ مستمر، وفي سباق دائم، وأمرًا ثالثًا وهو أنه لا بأسَ من الأخذ بالأسباب، فقد استأجر رسول الله عبد الله بن أُريقط وكان رجلًا مشركًا من أجل أن يريَه الطريق، وهكذا كانت أسماء تذهب بالطعام والشراب، وهكذا محمد بن أبي بكر يذهب بالأغنام ليشرب منها أبو بكر الصديق، وهكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسافة بين مكة والمدينة أكثر من أربعمائة كيلو متر، فيَقضيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدر ثمانية أو عشرة أيام، فهذه عبرٌ وعظات من هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، من أجل إسعاد البرية.
إن البرية يوم مَبعث أحمـــــــد ** نظَر الإله لها فبدَّل حالهــــــــا
بل كرَّم الإنسان حين اختار مِن ** خير البرية نَجمَها وهلالَهـــــا
لبس المرقَّع وهو قائدُ أمــــــــةٍ ** جبت الكنوزَ فكسَّرت أغلالَهـا
لَمَّا رآها الله تمشي نحـــــــــوه ** لا تنتظر إلا رضاه سعى لهــــا
اللهم اجعلنا من أمته واحشرنا في زُمرته، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم لا تدَع لنا ذنبًا إلا غفَرته، ولا هَمًّا إلا فرَّجته، اللهم أصلِح الحال والمآل، اللهم اهدِنا واهدِ بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى يا ربنا، اللهم أصلِح الرعاة والرعية، اللهم أصلِح بطانتهم يا رب العالمين.
_________________________________________________
الكاتب: الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
- التصنيف: