سورة الفاتحة مفتاح كل خير ومنهج حياة
إن سورة الفاتحة تشتمل على شفاء القلوب وشفاء الأبدان. فأما شفاء القلوب، فإنها اشتملت عليه أتم اشتِمال، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد.
المقدمة:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فاتحة الكتاب، وأُمُّ القرآن، والسبع المثاني، والشفاء التام، والدواء النافع، والرقية التامة، ومفتاح الغنى والفلاح، وحافظة القوة، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها، وأعطاها حقها، وأحسن تنزيلها على دائه، وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها، والسر الذي لأجله كانت كذلك).
أيها المسلمون، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وقال جل جلاله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57]، وقال سبحانه: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
وأخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال: «ألم يقل الله» : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]... ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد» ، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت له: يا رسول الله، ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: «الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
أيها المسلمون، هذه السورة المباركة؛ سورة الفاتحة مع قصرها، لكنها تشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. قال ابن القيم رحمه الله: إن سورة الفاتحة تشتمل على شفاء القلوب وشفاء الأبدان. فأما شفاء القلوب، فإنها اشتملت عليه أتم اشتِمال، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد.
ويترتب على ذلك مرضان خطيران وقاتلان: الضلال، والغضب.
فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال؛ ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد، وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة؛ لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة.
أيها الناس، ومن أعظم مقاصد سورة الفاتحة: أنها سورة جامعة لجميع ما في القرآن... فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى... إلى أن قال رحمه الله: والآيات الثلاث الأخر من قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله، والتحيز إلى رحمته.
أيها المسلمون، وذكر ابن القيم رحمه الله في مقدمة كتابه مدارج السالكين: أن هذه السورة اشتملت على الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال... وفيها بيان ضلال وانحراف أهل الكتاب اليهود والنصارى؛ ولذلك لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها. وقال السعدي رحمه الله: وهذه السورة فيها إثبات الجزاء على الأعمال، وأن الجزاء يكون بالعدل، وتضمنت إخلاص الدين لله، وتضمنت إثبات النبوة في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}؛ لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.
وإن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الصحيح لهذا الدين، وكليات المشاعر والتوجيهات، وفي ذلك إشارة إلى شيء من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج، فصلاته خداج» ؛ أي: باطلة وغير مقبولة ومردودة على صاحبها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ؛ (متفق عليه).
أيها المسلمون، لا شك أن من تدبر سورة الفاتحة رأى من غزارة معانيها وجمالها، وروعة تناسبها وجلالها، ما يأخذ بلُبِّه وعقله، ويضيء جوانب حياته. قال تعالى ممتنًّا على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].
أيها الناس، لقد وصف الله كتابه الكريم القرآن العظيم بأنه هدى، ورشد، وفرقان، وأنه مبين وتبيان لكل شيء، وبأنه رحمة، ونور، وشفاء لما في الصدور، وكله محكم، وكله متشابه في الحسن، ووصفه تعالى بأنه كله صلاح ويهدي إلى الإصلاح وإلى أقوم الأمور.
أيها المسلمون، إن الله تعالى أنزل هذا القرآن الكريم شفاءً للصدور من أمراض الشبهات والشهوات، ويحصل به اليقين والعلم، وشفاءً للأبدان من أمراضها وعللها وآلامها وأسقامها.
فها هي سورة الفاتحة وسورة الحمد، والسبع المثاني، وأم الكتاب، والشافية، وسورة الصلاة، تضمنت الحمد والثناء على الله جل جلاله، وتضمنت أسماء الله وصفاته، وتضمنت قضية المعاد والحساب والجزاء، وتضمنت إخلاص الدين والعبادة لله تعالى وحده لا شريك له، وتضمنت الطريق الموصل إلى الله تعالى وإلى رضوانه، وهو هذا الدين القويم والصراط المستقيم، الذي سار عليه جميع الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين، وتضمن أنه لا يقبل الله من أحدنا صرفًا ولا عدلًا ولا عملًا إذا لم يكن على هدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور...».
أيها المسلمون، العودة إلى كلام الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين، عودة إلى ما كان عليه الصحابة الكرام من تلقي القرآن الكريم، والعمل به، والاهتداء بآياته، وتحكيمه في كل شؤون حياتهم، والحرص والاقتداء بما كان عليه رسول الهدى وخاتم الأنبياء والرحمة المهداة والنعمة المسداة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
أيها المسلمون، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين: «والذي نفسي بيده، ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها» ؛ أي: سورة الفاتحة؛ صحَّحه الإمام الألباني في صحيح الترمذي.
أيها المسلمون، إن سورة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، أفضل سورة في القرآن، إنها السبع المثاني، وأنها اشتملت على الرد على المبطلين من أهل الملل والنحل، واشتملت على الرد على أهل البدع والضلال.
وما نريد أن نضعه في هذه الخطبة الثانية هو أن هذه السورة المباركة رسمت لنا نحن أمة الإسلام وبيَّنت ووضَّحت كيف نتعامل مع أهل الكتاب: من اليهود والنصارى في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].
أيها الناس، المغضوب عليهم هم اليهود لأنهم علموا الحق وعرفوه ولكنهم عملوا بخلافه؛ فغضب الله عليهم، ولعنهم، وأعَدَّ لهم عذابًا عظيمًا.
والضالون هم النصارى الذين عبدوا الله على جهل، فمقتهم الله وبين ضلالهم وانحرافهم وكفرهم.
أيها المسلمون، إن القارئ للقرآن الكريم يرى بوضوح أنه قد سجل على بني إسرائيل كثيرًا من الأخلاق السيئة، والطباع القبيحة، والمسالك الخبيثة، فقد وصفهم بالكفر والجحود والأنانية والغرور، والجبن والكذب، واللجاج والمخادعة، والعصيان والتعدي، وقسوة القلب، وانحراف الطبع، والمسارعة في الإثم والعدوان، وأكل أموال الناس بالباطل، إلى غير ذلك من الرذائل التي سجلها القرآن الكريم عليهم، واستحقوا بسببها الطرد من رحمة الله، ولعنهم الله، وضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.
أيها المسلمون، وإن هذه القبائح التي سجلها عليهم القرآن الكريم، يراها الإنسان واضحة جلية فيهم على مر العصور والدهور، واختلاف الأمكنة، ولم تزدهم الأيام إلا رسوخًا فيها وتمكنًا منها، وتعلقًا بها. ومن رذائلهم إجمالًا: نقضهم للعهود والمواثيق، سوء أَدَبِهِمْ مَعَ اللهِ تَعَالَى وَعَدَاوَتُهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ، وَقَتْلُهُمُ الأَنْبِيَاءَ، جُحُودُهُمُ الْحَقَّ وَكَرَاهِيَتُهُمْ لَهُ، وتَحَايُلُهُمْ عَلَى اسْتِحْلَالِ الْحَرَامِ، وَاسْتِحْلَالِ مَحَارِمِ اللهِ، ونَبْذُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَاتِّبَاعُهُمُ السِّحْرَ وَالأَوْهَامَ الشَّيْطَانِيَّةَ، وتَحْرِيفُهُمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَنِسْيَانُهُمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِرُوا بِهِ، وحَرْصُهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ، وَجُبْنُهُمْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَالآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى قَبَائِحِهِمْ وَرَذَائِلِهِمْ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، وَلَا نُرِيدُ الْإِطَالَةَ فِي ذَلِكَ، وَيَكْفِينَا نَحْنُ أُمَّةَ الإِسْلَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
هَؤُلَاءِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، هَؤُلَاءِ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَالرِّسَالَاتِ، هَؤُلَاءِ هُمْ قَتَلَةُ الأَنْبِيَاءِ، هَؤُلَاءِ هُمْ آكِلُو الرِّبَا وَالْمُحَرَّمَاتِ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْخِسَّةِ وَاللُّؤْمِ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْفَسَادِ وَأَرْبَابُهُ وَمُرَوِّجُوهُ، هَؤُلَاءِ هُمْ مَنْ يُصْدِرُ إِلَيْنَا نَحْنُ أُمَّةَ الإِسْلَامِ الشَّرَّ، هَؤُلَاءِ هُمْ صُنَّاعُ الْخِنَاءِ وَالشَّذُوذِ وَنَاشِرُو الْفَوَاحِشِ وَالْفُجُورِ، هُمْ مَنِ احْتَلَّ قُدْسَنَا وَدَنَّسَ مُقَدَّسَاتِنَا، واحْتَلَّ أَرْضَنَا وَقَتَلَ الأَطْفَالَ وَالنِّسَاءَ، هُمْ مَنْ يُعْرَبِدُ فِي بِلَادِ الإِسْلَامِ، وبمعاونة الخونة والمنافقين من أبناء هذه الأمة ممن خانوا دينهم وأمتهم، وباعوا كرامتهم، وامتهنوا شعوبهم، ومارسوا كل قبيح ورذيلة مع شعوبهم وفي بلدانهم، صنعوا من أنفسهم رموزًا وقادة واستخفوا ببلدانهم وبشعوبهم، وأرْضعوا شعوبهم الذل والقهر والمهانة، ففتحوا لشعوبهم السجون والمعتقلات، وأثخنوا في أمتهم الجراحات، وأفقروا شعوبهم، وجعلوا الناس يبحثون عن كسرةِ خبزٍ تسدُّ جوعتهم، ولكنهم أمام أعداء الرسل والرسالات كما قال الشاعر:
أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ
إن الذي جعل اليهود والنصارى يعربدون ويسفكون دماء أهل الإسلام وينتهكون الحرمات هم من تولَّى أمر هذه الأمة، وهم من خانوا الأمانة، وهم من حاربوا الدين والكتاب والسنة، وحاربوا الفضيلة ونشروا الرذيلة، ومزَّقوا أمة الإسلام طوائف وأحزابًا يتصارعون فيما بينهم، خلا الجو لليهود والنصارى؛ ولهذا قال تعالى في آخر سورة الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7].
فهل فهمت أمة الإسلام الدرس؟ وهل عقلنا ديننا؟ وهل فهمنا كتاب ربنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ وهل نعود إلى المنهج الحق: الكتاب والسنة؟ وما كان عليه الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار رضي الله عنهم نرجو الله ذلك، بسم الله الرحمن الرحيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 2 - 7] آمين، ألا وصلوا وسلموا.
الكاتب: أبو سلمان راجح الحنق
- التصنيف: