خصوصية أمهات المؤمنين في النفقة والسكنى، بعد موته، صلى الله عليه وسلم.
من المعلوم عند عامة المسلمين أن زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – لسن كغيرهن من النساء؛ لقول الله – تعالى -: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } [الأحزاب: 32]، وأن لهن خصوصيات كثيرة ليست لغيرهن، بحكم أنهن زوجات للنبي – صلى الله عليه وسلم – منها: أنهن أمهات للمؤمنين، لقوله – تعالى -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6]، وأنهن لا يتزوجن بعده، لأنهن محبوسات عليه، قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]، وأنهن لا يرثن مما تركه شيئا، كما لا يرثه غيرهن بعد وفاته؛ لأن الأنبياء لا يورثون؛ كما ثبت في الصحاح، والسنن، والمساند، وغير ذلك من الخصائص.
خصوصية أمهات المؤمنين في النفقة والسكنى، بعد موته، صلى الله عليه وسلم].
بسم الله الرحمن الرحيم.
من المعلوم عند عامة المسلمين أن زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – لسن كغيرهن من النساء؛ لقول الله – تعالى -: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } [الأحزاب: 32]، وأن لهن خصوصيات كثيرة ليست لغيرهن، بحكم أنهن زوجات للنبي – صلى الله عليه وسلم – منها: أنهن أمهات للمؤمنين، لقوله – تعالى -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6]، وأنهن لا يتزوجن بعده، لأنهن محبوسات عليه، قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]، وأنهن لا يرثن مما تركه شيئا، كما لا يرثه غيرهن بعد وفاته؛ لأن الأنبياء لا يورثون؛ كما ثبت في الصحاح، والسنن، والمساند، وغير ذلك من الخصائص.
وهذه الخصائص لها تعلق، وتأثير في حياتهن، ومعايشهن بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم - فكيف عشن – رضي الله عنهن - بعد وفاته؟، وما مصدر نفقاتهن ومؤنتهن، وسكناهن، وهن غير وارثات، وقد مات رسول الله، ولم يترك لهن شيئا، كما ستراه؟
والجواب ابتداء: أن حالهن في النفقة والسكنى بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – كحالهن في حياته.
وتفصيل ذلك يقتضي بيانَ حالهن في النفقة والمؤنة في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – ليتبين حالهن بعد وفاته، وبيانَ أوجه الخصوصية في ذلك، فهذه ثلاثة فصول، يعقبها فصل رابع في بطلان قياس غيرهن عليهن:
****
الفصل الأول: كيف كان أمر نفقتهن ومؤنتهن في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم؟
وخلاصة القول بإيجاز يناسب المقام: أن نفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأهل بيته، كانت من "الفيء"، وهو: (ما صار إلى المسلمين من أموال الكفار بغير قتال) [المقدمات الممهدات (1/ 355)]، وكان للنبي – صلى الله عليه وسلم – أعمال وتصرفات وأحكام في ذلك المال، ليس هذا موضع الكلام فيها.
والذي يعنينا هنا ما يتعلق بنفقته ومؤنة نسائه، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يأخذ من الفيء نفقة أهله ومؤنتهم سنةً؛ قال عمر بن الخطاب لعلي والعباس، رضي الله عنهم أجمعين: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6]- إِلَى قَوْلِهِ - {قَدِيرٌ} [الحشر: 6]، فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا المَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا المَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ حَيَاتَهُ).
وقال ابن أبي زيد القيرواني: (ومما أفاء الله على نبيه مما لا يوجف عليه: أموالُ بنى النضير، وفدك، وبعض خيبر، فلم يجز فيها مغنماً ولا خمساً، فكان القضاء فيه له خالصاً، فلم يصرفها - صلى الله عليه وسلم - ولا حازها لنفسه ولا لقربته، ولا خصهم منها بسهم، ونظر فيها بما أراه الله، فكانت لنوائبه ونفقة نسائه، وما يعدوه من أمور غير معتقد لشيء منها، ولا مستأثر لنفسه ولا لمن بعده، فكان يخرج من غلتها نفقة نفسه وعياله سنةً، ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح، فكان هذا عمله في غلة قريظة والنضير). [النوادر والزيادات 3/ 389].
والذي يظهر من نصوص كثيرة: أن تلك الأموال لم تكن ملكا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل كان مستخلفا فيها يتصرف فيها كما أمره الله – تعالى – لا يخرج عنه بحال،
قال ابن القيم: (وقد اختلف الفقهاء في الفيء: هل كان ملكا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتصرف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكا له؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.
والذي تدل عليه سنته وهديه أنه كان يتصرف فيه بالأمر، فيضعه حيث أمره الله، ويقسمه على من أمر بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرف فيه تصرف المالك بشهوته وإرادته، يعطي من أحب، ويمنع من أحب، وإنما كان يتصرف فيه تصرف العبد المأمور ينفذ ما أمره به سيده ومولاه، فيعطي من أمر بإعطائه، ويمنع من أمر بمنعه. وقد صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا فقال: «والله إني لا أعطي أحدا ولا أمنعه، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت»، فكان عطاؤه ومنعه وقسمه بمجرد الأمر، فإن الله – سبحانه - خيره بين أن يكون عبدا رسولا، وبين أن يكون ملكا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا.
والفرق بينهما أن العبد الرسول لا يتصرف إلا بأمر سيده ومرسله، والملك الرسول، له أن يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، كما قال – تعالى - للملك الرسول سليمان: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} [ص: 39] [ص: 39] . أي: أعط من شئت، وامنع من شئت، لا نحاسبك. وهذه المرتبة هي التي عرضت على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فرغب عنها إلى ما هو أعلى منها، وهي مرتبة العبودية المحضة التي تصرف صاحبها فيها مقصور على أمر السيد في كل دقيق وجليل.
والمقصود: أن تصرفه في الفيء بهذه المثابة، فهو ملك يخالف حكم غيره من المالكين، ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقة سنتهم، ويجعل الباقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل). [زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 76)].
وكان ما يأخذه منها أشبه بما يأخذه الخازن على عمله، قال القرافي في معرض الاحتجاج على أن الأنبياء لا يورثون: (وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ يُعْطِي عَامَّةَ رَعِيَّتِهِ لِلتَّمْلِيكِ لَا لِلصَّرْفِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيُعْطِي خَاصَّتَهُ لِلصَّرْفِ لَا لِلتَّمْلِيكِ؛ فَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - خُزَّانُ اللَّهِ وَأُمَنَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَالْخَازِنُ يَصْرِفُ لِغَيْرِهِ وَلَهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَةُ حَيَاتِهِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالزَّهَادَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانُوا خزانه والخازن لَا يُورَثُ عَنْهُ مَا يَخْزِنُ) [الذخيرة للقرافي (13/ 14)].
وكان ما يخصصه لنفقته ونفقة أهله أقل ما يمكن، وقد وصفت عائشة – رضى الله عنها –عيشهن، ورسول الله حي، فقالت لِعُرْوَةَ: (ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلاَلِ، ثُمَّ الهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نَارٌ)، فَقُلْتُ: يَا خَالَة: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: (الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا). [متفق عليه].
ووصفت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الحال بعد موته – صلى الله عليه وسلم - فقَالَتْ : (تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ). [رواه البخاري وغيره]، وقَالَتْ: (تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ). [متفق عليه].
****
الفصل الثاني: نفقات أمهات المؤمنين بعد وفاته، صلى الله عليه وسلم.
بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ظنَّ أمهات المؤمنين أن لهن الحق فيما تركه النبي – صلى الله عليه وسلم – فطلبن ثُمُنَهن من الميراث، فأقنعتهن الفقيهة الصديقة عائشة بأن ذلك ليس لهن، ولا من حقهن، قالت عائشة: "(أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، يَسْأَلْنَهُ ثُمُنَهُنَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُنْتُ أَنَا أَرُدُّهُنَّ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: أَلاَ تَتَّقِينَ اللَّهَ؟، أَلَمْ تَعْلَمْنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: (لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ - يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ - إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا المَالِ)، فَانْتَهَى أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَا أَخْبَرَتْهُنَّ). [رواه البخاري وغيره].
فكان حكم الله في نفقات أمهات المؤمنين بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم -: أن يعمل في ذلك الفيء بعمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتؤخذ منه نفقة نسائه سنة، ما دمن حيات، - فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لاَ يَقْتَسِم وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي، وَمَئُونَةِ عَامِلِي، فَهُوَ صَدَقَةٌ). [متفق عليه].
وبهذا عمل أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما:
قَالَ عُمَرُ: (ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ: إِنَّهُ فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَكُنْتُ أَنَا وَلِيَّ أَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ). [رواه البخاري ومسلم].
وقال ابن أبي زيد: (وأراد نساؤه أن يطلبن بعده ميراثهن من ذلك، وظنن أنه ملك له فقالت لهن عائشة: ألم يقل: لا نورث ما تركنا صدقة؟ وقاله لهن أبو بكر فأمسكن. ثم وليها أبو بكر بمثل ذلك، فكان يخرج منها نفقة عمالها، ثم نفقة أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - ثم يفرق سائرها فى المسلمين.
ثم وليها عمر بمثل ذلك حتى سأله علي والعباس أن يوليها إليهما، ففعل على أن يفعلا فيها كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر، ففعلا. فكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يرتزقن منها حتى متن، فمضت صدقةً للمسلمين إلى اليوم، ولم يرث أحد منها من ورثة من كان يجرى عليه النفقة منها، ولم يكن لأحد ممن ولي الأمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما كان له، بل كانوا أسوةً للمسلمين. وكذلك ما أفاء الله بعده بغير إيجاف فهو لجميع المسلمين. وكذلك قال عمر بن عبد العزيز، ومالك وأصحابه).
****
وحكم مساكنهن مثل حكم نفقاتهن، يبقين فيها ما حيين، فإذا متن صارت تلك النفقة والمساكن إلى بيت مال المسلمين، وقد عقد البخاري لذلك بابا عنوانه: (بَابُ مَا جَاءَ فِي بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ - وَمَا نُسِبَ مِنَ البُيُوتِ إِلَيْهِنَّ.
وَقَوْلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وَ{لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}.
قَالَ ابن الْمُنير: (غَرَضُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ تُحَقِّقُ دَوَامَ اسْتِحْقَاقِهِنَّ لِلْبُيُوتِ مَا بَقِينَ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُنَّ وَسُكْنَاهُنَّ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). [فتح الباري لابن حجر (6/ 211)].
قال ابن عبد البر: (قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: فَمَسَاكِنُهُنَّ كَانَتْ فِي مَعْنَى نَفَقَاتِهِنَّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَثْنَاةً لَهُنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ مِمَّا كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ) [التمهيد (8/ 173)]، وقال السبكي الكبير في شرح حديث (ما تركت بعد نفقة نسائي): (ويدخل فيه كسوتهن، وسائر اللوازم، أي: كالمساكن). [إرشاد الساري (9/ 426)]، قال ابن حجر: (وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَمَرَّتِ الْمَسَاكِنُ الَّتِي كُنَّ فِيهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ وَاحِدَةٍ بِاسْمِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ) [فتح الباري (12/ 8)].
وإذا اتضح ذلك اتضح أن استحقاق أمهات المؤمنين لتلك النفقة والمؤونة والمسكن، لم يكن على سبيل الميراث، بل كان ذلك حكما خاصا بهن، لا يشاركهن فيه غيره، ولم يكن لأحد من الخلق حق في ذلك، بل كان خالصا لهن بعد وفاته، كما كان قبل وفاته كذلك.
نعم، ذهب بعض العلماء إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مَلَّكَ كُلّ واحدة مِنْ أَزْوَاجِهِ الْبَيْتَ الَّذِي هِيَ فِيهِ، فَسَكَنَّ بَعْدَهُ فِيهِنَّ بِذَلِكَ التَّمْلِيكِ، وهو قول ضعيف، والراجح ما تقدم أن سكناهن مِنْ جُمْلَةِ مؤنتهن الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَاهَا لَهُنَّ مِمَّا كَانَ بِيَدِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، قال الطبري: (وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ وَرَثَتَهُنَّ لَمْ يَرِثوا عَنْهُنَّ مَنَازِلَهُنَّ، وَلَوْ كَانَتِ الْبُيُوتُ مِلْكًا لَهُنَّ لَانْتَقَلَتْ إِلَى وَرَثَتِهِنَّ، وَفِي تَرْكِ وَرَثَتِهِنَّ حُقُوقَهُمْ مِنْهَا دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا زِيدَتْ بُيُوتُهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ؛ لِعُمُومِ نَفْعِهِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ فِيمَا كَانَ يُصْرَفُ لَهُنَّ مِنَ النَّفَقَاتِ). [فتح الباري (6/ 211)].
وقال ابن عبد البر: (قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: فَمَسَاكِنُهُنَّ كَانَتْ فِي مَعْنَى نَفَقَاتِهِنَّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَثْنَاةً لَهُنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ مِمَّا كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ مَسَاكِنَهُنَّ لَمْ يَرِثْهَا عَنْهُنَّ وَرَثَتُهُنَّ، قَالُوا: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُنَّ كَانَ لَا شَكَّ قَدْ وَرِثَهُ عَنْهُنَّ وَرَثَتُهُنَّ، قَالُوا: وَفِي تَرْكِ وَرَثَتِهِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُنَّ مِلْكًا، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ سُكْنَاهَا حَيَاتَهُنَّ). [التمهيد (8/ 173)].
وقال النووي: (وَكَذَلِكَ اخْتُصِصْنَ بِمَسَاكِنِهِنَّ لَمْ يَرِثْهَا وَرَثَتُهُنَّ). [شرح مسلم (12/ 73)].
وقال القرطبي: (وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَؤونَتِهِنَّ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَثْنَاهَا لَهُنَّ، كَمَا اسْتَثْنَى لَهُنَّ نَفَقَاتهُنَّ). [تفسير القرطبي (14/ 225)].
قال ابن حجر: (وَادَّعَى الْمُهَلَّبُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حَبَسَ عَلَيْهِنَّ بُيُوتَهُنَّ، ثُمَّ اسْتدلّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَبَسَ دَارًا جَازَ لَهُ أَنْ يسكن مِنْهَا فِي مَوضِع. وَتعقبه بن الْمُنير بِمَنْعِ أَصْلِ الدَّعْوَى، ثُمَّ عَلَى التَّنَزُّلِ لَا يُوَافِقُ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ إِلَّا إِنْ صَرَّحَ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَمن أَيْن لَهُ ذَلِك؟). [فتح الباري (6/ 211)].
****
الفصل الثالث: ذكر بعض الخصوصيات التي اقتضت تلك الأحكام الخاصة بهن.
ذكر العلماء كثيرا من تلك الخصوصيات، منها:
الأولى: أنهن كن محبوسات عليه لا يتزوجن غيره، ليكن زوجاته يوم القيامة، ذكره كثير من العلماء، قال ابن رشد: (لأن النفقة كانت واجبة لهن بعد موت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما أفاء الله عليه من بني النضير، وفدك، وسهمه بخيبر؛ بقوله - عز وجل -: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] الآية، كما كانت تجب لهن في حياته من أجل أنهن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - كن محبوسات عليه، ليكن أزواجه في الجنة، محرمات على غيره). [البيان والتحصيل (7/ 356)].
الثانية: أنهن كالمعتدات في بيوتهن؛ لا يحل لهن الزواج، نص عليه كثير من العلماء، قال البغوي: (قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَعْنَى الْمُعْتَدَّاتِ؛ إِذْ كُنَّ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ أَنْ يُنْكَحْنَ، فَجَرَتْ لَهُنَّ النَّفَقَةُ). [شرح السنة للبغوي (14/ 52)]. وقال ابن حجر: (وَحُكْمُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَالْمُعْتَدَّاتِ؛ لِأَنَّهُنَّ لَا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). [فتح الباري (7/ 66)]. وقال الشنقيطي: (أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَهُنَّ حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِنَّ لَا تُشَارِكُهُنَّ فِيهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَاءِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ انْقِطَاعُ أَمَلِهِنَّ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا مِنَ التَّزْوِيجِ، وَيَأْسُهُنَّ مِنْهُ الْيَأْسَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِطَهُ طَمَعٌ، فَهُنَّ كَالْمُعْتَدَّاتِ الْمَحْبُوسَاتِ بِسَبَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَوْتِ). [أضواء البيان (5/ 192)].
الثالثة: أنهن لما كنَّ لايرثن مما تركه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما ترث سائر النساء من أزواجهن كان لهن الحق في النفقة والسكنى على وجه خاص.
الرابعة: أن الله سبحانه لما قضى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يورث، جعل له حقا خاصا في نفقة نسائه ومؤنتهن بعد موته، ليس لأحد من خلقه. قال الباجي: (318): (إمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ أَزْوَاجِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -؛ لِأَنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ عَلَيْهِ عَنْ النِّكَاحِ). [المنتقى شرح الموطإ (9/ 501)].
الخامسة: أنهن لما كن أمهات للمؤمنين، بنص القرآن، كان لهن حكم خاص، وهو وجوب نفقاتهن ومؤنتهن على جميع المؤمنين.
السادسة: أنهن لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة على الدنيا، وعشن على ذلك مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اختصهن الله بأن جعل نفقاتهن ومؤنتهن باقية على ما كانت عليه في حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لعظم حقوقهن.
قال القرطبي في [الأحزاب: 28، 29]:
(وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ – سُبْحَانَهُ - خَيَّرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مِسْكِينًا، فَشَاوَرَ جِبْرِيلَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسْكَنَةِ فَاخْتَارَهَا، فَلَمَّا اخْتَارَهَا وَهِيَ أَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَمَرَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُخَيِّرَ زَوْجَاتِهِ، فَرُبَّمَا كَانَ فِيهِنَّ مَنْ يَكْرَهُ الْمُقَامَ مَعَهُ عَلَى الشِّدَّةِ تَنْزِيهًا لَهُ)
فاخترن – رضي الله عنهن – المنزلة العالية التي اختارها رسول الله، مع ما فيها من المشقة، والجهد، وما يترتب عليها من الأحكام التي لا يطيقها غيرهنَّ، وفي ذلك نزل قوله – تعالى- في قول: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29].
وقال النووي: (وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي" فَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِرْثُهُنَّ مِنْهُ، بَلْ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَاتٍ عَنِ الْأَزْوَاجِ بِسَبَبِهِ، أَوْ لِعِظَمِ حَقِّهِنَّ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِفَضْلِهِنَّ، وَقِدَمِ هِجْرَتِهِنَّ وَكَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ اخْتُصِصْنَ بِمَسَاكِنِهِنَّ لَمْ يَرِثْهَا وَرَثَتُهُنَّ). [شرح النووي على مسلم (12/ 73)].
وإذا تأملت كل تلك الخصائص العظيمة، وأنعمت النظر فيها وجدتها في الحقيقة من خصائص الرسول – صلى الله عليه وسلم – التي لا يشاركه فيها أحد من أمته كائنا من كان، وإنما كانت لأمهات المؤمنين؛ لأنهن زوجاته، فاستحالت مشاركة امرأة لهن في تلك الخصوصيات التي استوجبت لهن أحكاما خاصة.
****
الفصل الرابع: بطلان قياس غيرهن من النساء عليهن، في النفقة والسكنى.
وقد أحاط الله - تعالى - تلك الخصوصيات بسياج مانع من الاقتراب منها، حائل دون قياس غيرهن عليهن، فشرع – سبحانه وتعالى – لغير الرسول – صلى الله عليه وسلم – وزوجاته من الناس، ما يناسب أحوالهم، ويصلح شؤونهم، فشرع العمل، ورغب في الكسب الحلال بكل الطرق الشرعية المعروفة، وجعل ما يحصلونه ملكا تاما لهم، يتصرفون فيه كما يشاؤون، وفق ضوابط شرعية، وحصن تلك الأموال والممتلكات تحصينا عظيما، فجعل حرمة مال المسلم كحرمة دمه وعرضه، فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، فكل تصرفاته المالية مبنية على الاختيار، كالبيع والشراء والهبة والصدقة والوقف وغيرها، لا يكره على شيء من ذلك، ومن أكره وأجبر على شيء كان باطلا، لا يترتب عليه شيء.
وجعل من طرق التملك انتقالَ المال من الميت إلى ورثته عن طريق "الإرث" إذا توفرت أسبابه وشروطه، وانتفت موانعه، فتكون ملكية المال قد انتقلت من المالك الميت إلى الورثة على التفصيل الذي بينه الله في كتابه، وهي ملكية تامة غير منقوصة بالإجماع، لها من الحرمة ما كان لها قبل الانتقال.
ومن الورثة: الزوجات، فقد جعل لهن حقا في تركة أزواجهن كغيرهن من الوارثين، وانقطع حكم الزواج عنهن، وأصبحن كغيرهن من النساء غير المتزوجات، يباح لهن الزواج بعد وفاة الأزواج، وانتهاء العدة، بل رغبهن الشرع في ذلك، وأوجب نفقتهن على أزواجهن الجدد، وإلا فعلى أبنائهن، أو آبائهن، أوغيرهم على التفصيل المعروف، وإذا لم يوجد كان لهن نصيب من الزكاة، ومن بيت مال المسلمين.
ومن تلك الأموال الموروثة: دار الميت ومسكنه، كما دلت عليه النصوص الشرعية، واتفقت عليه الأمة، وتواتر العمل به منذ عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى يومنا هذا، لم ينازع في ذلك أحد. فهي من الميراث: للزوجة منها الربع، أو الثمن فقط، بحسب حالها، والباقي لغيرها على التفصيل المعروف في شرع الله.
وكان العمل بهذا في صدر الإسلام، يرث الرجل والمرأة، ويورثان، وترث المتوفى عنها زوجها من ماله ومسكنه ما يكون ملكا تاما لها كالرجل، وتتزوج مرة، ومرتين، وثلاثا، وكان منهن من وضعن حملهن بعد موت أزواجهن بنحو شهر فقط، فاستعددن للزواج، وكان منهن من عُرِّض لهن بالزواج في عدتهن، وتزوجن بعد انتهاء العدة مباشرة.
كل ذلك، وأمهات المؤمنين بين ظهراني المسلمين، يجري عليهن خاصة حكم الله فيهن، فكنَّ ممنوعات من ميراث النبي، يرتزقن ويسكنَّ فيما خصه الله بهن، محرم عليهن الزواج، محبوسات على الرسول – صلى الله عليه وسلم – تاركات للزينة والتجمل، حتى كنَّ يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ، موصوفات بأمهات المؤمنين.
فوقف المسلمون عند حدود الله، لم يتجرأ أحد منهم على أن يقيس أحدا من البشر على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تلك الخصائص، ولا أن يجعل امرأة مثل أمهات المؤمنين، ولا أن يقيسها عليهن فيما خصهن الله به، مما تقدم.
فتبين أنه لا مدخل للقياس هنا؛ لأمرين اثنين:
أولهما: أن القياس إنما يصار إليه لإلحاق ما لا نص فيه، على ما ورد فيه نص، لإثبات حكم الأصل له؛ وفي مسألتنا هذه حكم نساء المسلمين في النفقة والسكنى بعد وفات أزواجهن، ثابت بنصوص الكتاب والسنة والإجماع، فلا قياس.
والآخر: أن الأصل المفترض كونه مقيسا عليه - وهو أمهات الؤمنين - قد ثبت بالنص اختصاصهن بذلك الحكم في النفقة والسكنى، لما تقدم من الخصائص التي لا يشاركهن فيها غيرهن من النساء، وهي خصائص مردها إلى كونهن زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، وَفِي قِيَاسِ غيرهن عليهن إبْطَالُ ما اختص الله به رسوله، وزوجاته. وهو باطل. قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى: (سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: لَا يُقَاسُ عَلَى خَاصٍّ). [البحر المحيط في أصول الفقه (7/ 131)].
فلا الأصل هنا مما يجوز القياس عليه، ولا الفرع مما يصح قياسه، على فرض أن الأول هو الأصل، والثاني هو الفرع، ولو عُكِس الأمر لكان صحيحا؛ لأن الأصل هو ما شرع لعموم الأمة، والفرع هو ما استثني؛ لخصوصيته، فكان أبعد عن القياس.
والمقام لا يحتاج إلى أكثر من هذا؛ لوضوحه، وبيانه.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحمد بن محمد الحمزاوي
شيخ أصولي لغوي من بلاد المغرب العربي عمل لمدة 25 عاما في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية ثم رجع إلى بلاد المغرب في عام 1440 من الهجرة.
- المصدر: