لماذا لم تكن مشكلة "الأولاد" بعد الطلاق فيما مضى، بهذا السوء الذي هي عليه الآن؟

منذ 23 ساعة

لماذا لم تكن مشكلة "الأولاد" بعد الطلاق فيما مضى، بهذا السوء الذي هي عليه الآن؟

والجواب: أن الناس كانوا يعلمون أن الأصلح للأولاد أن يعيشوا بين آبائهم، وأمهاتهم، ينشؤون على ما يربيهم عليه آباؤهم، وأمهاتهم من أمور دينهم، كل واحد بحسبه، فهذا هو الأصل والوضع الطبعي.

فإذا حصل الفراق تعامل الآباء - في الجملة - مع أبنائهم على ما تقتضيه الفطرة السليمة، ويقرره لهم دينهم، من أن أبناءهم فلذات أكبادهم، وقطع من أفئدتهم تمشي على الأرض، فكان كل واحد من الأبوين يحرص على جلب المصلحة والمنفعة للأولاد، ودفع المفسدة والضرر عنهم، لا ينظر إلى شيء غير ذلك، فكانت الأم مع أبنائها كما كانت وهم مع أبيهم، وكان الأب معهم في النفقة والتربية كأنهم معه، فلم يكن الآباء محتاجين إلى من يعلمهم كيف يكونون آباء، وأمهات، فكانوا – في الجملة - على فطرتهم التي فطرهم الله عليها، وعلى دينهم الذي شرعه لهم ربهم، عز وجل.

****

وكان من أحكام دينهم في الحضانة التي اتفق عليها الفقهاء: أن للأب الحق في تعاهد أبنائه، وتفقدهم، وتأديبهم، وتعليمهم، ورعايتهم، وهم في حضانة أمهم، لا يحول بينه وبين ذلك شيء:

* فعند المالكية جاء في المدونة: (2/ 258): (قُلْتُ: فَإِنْ احْتَاجَ الْأَبُ إلَى الْأَدَبِ أَنْ يُؤَدِّبَ ابْنَهُ؟

قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: يُؤَدِّبُهُ بِالنَّهَارِ، وَيَبْعَثُهُ إلَى الْكُتَّابِ، وَيَنْقَلِبُ إلَى أُمِّهِ بِاللَّيْلِ فِي حَضَانَتِهَا، وَيُؤَدِّبُهُ عِنْدَ أُمِّهِ، وَيَتَعَاهَدُهُ عِنْدَ أُمِّهِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إلَّا أَنْ تَتَزَوَّجَ). وقال الخرشي في شرح قول خليل: (وَلِلْأَبِ تَعَاهُدُهُ وَأَدَبُهُ لِلْمَكْتَبِ):(أَيْ: وَلِلْوَلِيِّ تَعَاهُدُ الْمَحْضُونِ وَأَدَبُهُ وَبَعْثُهُ لِلْمُعَلِّمِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ أَبًا. وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ لِلْأَبِ الْقِيَامَ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ وَبِخَتْنِهِ فِي دَارِهِ، وَيُرْسِلُهُ لِلْأُمِّ، وَأَنَّ الْبِنْتَ تُزَفُّ مِنْ بَيْتِ أُمِّهَا، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْأَبُ بِذَلِكَ. انْتَهَى. وَالْمُرَادُ بِالْأَدَبِ: التَّأْدِيبُ).

* وعند الشافعية، قال الماوردي: (اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ الْمَكْفُولِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، فَإِنْ كَانَ غُلَامًا فَلَهُ حَالَتَان:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَخْتَارَ أُمَّهُ، فَيَأْوِيَ فِي اللَّيْلِ إِلَيْهَا، وَيَكُونَ فِي النَّهَارِ مَعَ أَبِيهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ، أَوْ فِي الكتاب إن كَانَ مَنْ أَهْلِ التَّعْلِيمِ. وَلَيْسَ لِلْأُمِّ أَنْ تَقْطَعَهُ فِي النَّهَارِ إِلَيْهَا؛ لِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي تَعْطِيلِهِ عَنْ تَعْلِيمٍ أَوْ صِنَاعَةٍ).

* وعند الحنابلة قال ابن قدامة: (وإن اختار الأم، أو صار لها بالقرعة، كان عندها ليلًا، ويأخذه الأب نهارًا، ليسلمه في مكتب أو صناعة؛ لأن القصد حظ الولد، وحظه فيما ذكرنا). [الكافي في فقه الإمام أحمد (3/ 247)].

* وجعل الحنفية هذا الهدف - وهو احتياج الولد إلى نوع من التربية والتنشئة - موحبا لذهاب الحضانة إلى الأقدر والأنسب على تحقيق ذلك الهدف بعد أن يستغني الطفل، فأبقوا حضانة البنت عند أمها إلى البلوغ؛ وجعلوا حضانة الولد للوالد، قال السرخسي: (فَأَمَّا الْغُلَامُ إذَا اسْتَغْنَى فَقَدْ احْتَاجَ إلَى تَعَلُّمِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ، وَالْأَبُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ، وَاحْتَاجَ إلَى مَنْ يُثَقِّفَهُ وَيُؤَدِّبَهُ، وَالْأَبُ هُوَ الَّذِي يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ صُحْبَةَ النِّسَاءِ مَفْسَدَةٌ لِلرِّجَالِ، فَإِذَا تُرِكَ عِنْدَهَا يَنْكَسِرُ لِسَانُهُ، وَيَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى طَبْعِ النِّسَاءِ، فَرُبَّمَا يَجِيءُ مُخَنَّثًا؛ فَلِهَذَا يُدْفَعُ إلَى الْأَبِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُنَا). [المبسوط (5/ 208)].

وكانت الأمهات يحرصن على ذلك، ويساعدن الآباء على تربية أبنائهم؛ ولا يرين ذلك انتقاصا من حقوقهن، لأنهن يعلمن أن بالأدب والتربية والتعلم، يكون أبناؤهن رجالا صالحين، وبناتهن نساء صالحات، وتلك كانت غايتهن، ومنتهى أملهن.

****

وإنما آل الأمر إلى ما نحن عليه بسبب فساد الطبع، والبعد عن دين الفطرة، فتقلصت رسالة الأب في "الحضانة" المعاصرة، وانحصرت في النفقة التي تحكم بها المحكمة، وصار صك الطلاق والحكم بالحضانة، صكَّ تمليك في يد المرأة، تتملك بموجبه الأولاد، وتتصرف فيهم تصرف المالك، وليس للأولاد من حق في أبيهم إلا بالزيارة يوم الأحد من الساعة كذا إلى الساعة كذا، إن سمحت الأم. فصار الأولاد أدوات للمعارك بين الأبوين، ووقودا للحروب بينهما، فكل واحد منهما يستعمل فلذات كبده لإيذاء الآخر، ويحطم أبناءه على رأس الآخر، فصرنا نرى أمورا وتصرفات، قد لا تكون في عالم الحيوانات العجماء، فنرى رجالا يتركون أبناءهم بدون نفقة عيالا على غيرهم، وقد يمرون بهم وهم في أسوأ الأحوال جوعا وأسمالا بالية، ولا يرق لهم قلب، ولا يرف لهم جفن، وقد يشمتون بهم؛ لأنهم أبناء فلانة طليقته، ونرى نساء يحرمن الآباء من رؤية أبنائهم، وقد يذللنهم عند الأبواب، ويربين أبناءهن شر تربية، يربينهم على عقوق آبائهم، والانتقام منهم إذا كبروا.

فواعجبا! كيف يرجو الأب بِرًّا وصلاحا من ابنٍ عقَّه هو أولا وأهمله صغيرا؟ أم كيف تأمل أمٌّ إحسانا وبرا من طفل ربته على عقوق أبيه؟

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا * إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ.

****

* فيا أيها الآباء والأمهات راجعوا أحوالكم، وغيروا ما بأنفسكم، وعودوا إلى ما به صلاحكم وصلاح أبنائكم، واتقو الله في فلذات أكبادكم، واتبعوا هدى ربكم، واعلموا أنه لا أحد من الخلق يمكن أن يكون أقدر منكم على تحقيق مصلحة أبنائكم وبناتكم، وجلب منفعتهم في الدنيا والآخرة.

فوالله، إنه من أكبر العجائب أن تحتاجي - أيتها الأم - إلى من يعلمها كيف تكونين أُمًّا رحيمة حريصة على مصلحة أبنائها، وأنت نبع الحنان؟ وأن تحتاج – أيها الأب - إلى من يعلمك الشهامة، والدفاع عمن تعول؟ ومن الأبوة تُتَعَلَّم الرجولة والنخوة؟! فما الذي صير قلوبكما كالحجارة، أو أشد قسوة؟!

* وأعجب من ذلك أن تنتظرا – أيها الأبوان - ممن كان يسعى، ولا يزال يسعى في إفساد أسرتكما، وإبعادها عن دينكما وشريعتكما، وإيصال حالكما إلى أسوأ من هذا= أن يضع لكما قوانين وأنظمة يصلح بها شأنكما، ويغير حالكما، إنكما إذً لفي ضلال مبين، وقديما قالوا: (من استرعى الذِّئْب ظلم).

أحمد بن محمد الحمزاوي

شيخ أصولي لغوي من بلاد المغرب العربي عمل لمدة 25 عاما في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية ثم رجع إلى بلاد المغرب في عام 1440 من الهجرة.