في النخبة والشعب

منذ 7 ساعات

في كتابه «في النخبة والشعب» تطرق الكاتب (برهان غليون) إلى العديد من القضايا التي تتعلق بالنخب المجتمعية وأنماطها

بسم الله الرحمن الرحيم

في كتابه «في النخبة والشعب» تطرق الكاتب (برهان غليون) إلى العديد من القضايا التي تتعلق بالنخب المجتمعية وأنماطها، ومفهوم الشعب من حيث تعريفه وتوصيفه الوظيفي، في محاولة –كما يقول- لترسيخ الاعتقاد بمقدرة جميع الشعوب على الارتقاء إلى مستوى المعايير والقيم الكونية الإنسانية.

ولأن الكاتب موغل في اعتناق المذهب العلماني أو الليبرالي أو الحداثي، فقد أغفل دور العقيدة الدينية الصحيحة في توحيد الشعوب وبناء الأمم، وهو أمر مفصلي إن لم يكن أوحد في ترسيخ المنظومة الأخلاقية وبناء الرغبة العارمة في النهوض بالأمة كخير أمة أخرجت للناس على أسس من العدالة والحرية.

والواقع يشهد أن حركة طالبان –مثلا- التي لم تدرس فلسفة سياسية، نجحت في هزيمة أمريكا وحلفاؤها واستطاعت في وقت قياسي تسديد ديونها كاملة للبنك الدولي لأنها لا تتعامل بالربا الذي حرمه الله تعالى، هذا فضلا عن حركة حماس التي تدور بينها في هذه الأيام حرب طاحنة مع أعتى جيش في العالم ذاك الأمريكي الصهيوني (معركة طوفان الأقصى 2024)، ومرغت أنف إسرائيل في التراب، ومر أكثر من عام ولم تحقق إسرائيل أي انتصار يذكر لمقاومين ما دخلوا كليات عسكرية ولكنهم دخلوا مدرسة العقيدة الإسلامية الصافية.

مشكلة أغلب المحللين من الساسة هذا الغرق التام في براثن الفكر الغربي واعتباره الدستور الأوحد في تحليل الأمور، فضلا عن غض الطرف -ربما- المتعمد للفكرة الإسلامية خاصة برغم ما يكتنفها من سلبيات في التطبيق ومؤامرات من عالم علماني مهيمن لا يرى الإسلام صديقا.

حيث يقول الكاتب عن الديمقراطية: هي أهم معارك الحداثة قاطبة.. فهي المدرسة التي تعلم الناس التحول من أخوة العشيرة والقبيلة والدين!! إلى أخوة المبادئ المختارة والواعية، القائمة على تمثل قيم مستنبطة ومختارة لا على إنتاج تقاليد ثقافية تاريخية.

وهذا كلام على أرض الواقع لا يساوي المداد الذي كتب به، وما زالت العقيدة الإسلامية الإيمانية الصافية هي المحك الحقيق للبذل والعطاء وبناء الفرد والأمة.     

لكن عموما الكتاب لم يعدم الكثير من الفوائد التي رصدتها وقدمتا للقارئ صافية نقية مبسطة بعيدا عن التعقيدات الفلسفية والمصطلحية التي لا تحلوا للكثيرين منه، والله من وراء القصد.               

** ينبغي استخدام مفهوم «النخبة» بروية ومع كثير من التحفظات، من أول هذه التحفظات عدم تجاهل الالتباس الحاصل في المفهوم بسبب الربط العفوي وغير المفكر فيه بين طابعه الوصفي الذي يقصر استخدامه على تحديد أو تعريف جميع أولئك الأفراد الحائزين على الثروة ومواقع المسئولية والمعرفة والوجاهة الاجتماعية واعتبارهم يشكلون نخبة اجتماعية بصرف النظر عن خصائصهم الشخصية وكفاءاتهم الذاتية والطريقة التي أوصلتهم إلى سدة المسئولية وحيازة الموارد الاجتماعية، وبين طابعة المعياري الذي يبرز بشكل واضح في المعنى اللغوي للفظ النخبة، والذي يشير إلى فئات متميزة بكفاءاتها وهو ما يبرر وصفها بالنخبة وتقلدها مقاليد القيادة والثروة.

** لا يمكن لنخبة أن تنشأ وتكون فاعلة وقادرة على إنشاء جماعة سياسية من دون تحقيق شرطين: الاستقلال عن أصحاب المشاريع والأعمال والمال من جهة، وتكوين وعي واضح بالمسئولية تجاه المجتمع والرأي العام من جهة ثانية.

وعلى درجة هذا الاستقلال وقوة الشعور بالمسئولية لدى النخب تتوقف مقدرتها على تأسيس جماعة سياسية مستقرة وفاعلة.

وينجم عن هذا أن النخب السياسية والثقافية المعنية بوضع رؤية عامة، والسعي إلى تحقيقها لا يمكن أن تكون امتداد مباشر للطبقة المالكة أو المسيطرة على الثروة المادية والرمزية، من دون أن يعني ذلك أنها لا ترتبط بها، أو لا تنتمي إليها ولا تولد في حجرها، لكنها ليست نفسها، وهي تدخل في دينامكية خاصة بها منذ اللحظة التي تحتل فيها موقعا مختلفا يتعلق بالقيادة والتوجيه العموميين.

** النخبة هي بالتعريف نخب مقطوعة نسبيا عن الثقافة الاجتماعية التقليدية. وهذا أهم عنصر قوة فيها ومبرر وجودها. فمن دون هذه القطيعة الفكرية والنفسية والسياسية لا يمكن للنخبة أن تخرج من إطار التقاليد السائدة ولا أن تجسد أي إضافة أو معرفة استثنائية. وهي كذلك بالتعريف نخبة تغيرية، فالهدف من إنشائها أو نشؤها هو الخروج من الجمود ومسايرة التبدلات والتحولات الاجتماعية.

فالتغيير كان يعني الانسجام مع حركة التاريخ، والثورة على عوامل الانحطاط والموت المجتمعي.      

 ** والفئات الاجتماعية التي تتحكم بالموارد المادية والرمزية، أو تملك حق النفوذ إليها، تتحول مع غياب أي مشروع عام إلى مجموعات من «الكواسر» الذين يتنازعون من دون رادع ولا معيار مع المجتمع وفيما بينهم لتعظيم مكاسبهم ومغانمهم الخاصة.. رجال الأعمال مثلهم مثل التكنوقراطيين والبيروقراطيين الذين يملكون السلطة والمال، يعملون جميعا تحت مبدأ واحد «اضرب واهرب ولا تفكر بالغد»

** النخب المثقفة والسياسية والتكنوقراطية والمالية والإدارية وغيرها تفتقر اليوم إلى أي مشروع جماعي، وتشكل مجموعات مصالح خاصة لا تجمع بينها رؤية، ولا توحد عملها أهداف وغايات عامة. ولذلك لا يضمن وحدة النظام هنا واستمراره سوى استخدام «القوة العنيفة» المادية الفرض الانصياع على النخب نفسها، وصيغة ميكانيكية من القسمة وتوزيع الغنائم حسب الولاءات والانتماءات الخاصة، وأسلوب ديني في فرض الرأي الواحد الذي لا يناقش ولا يشارك رأي الزعيم الأوحد.

فليس هناك سوى القائد الملهم الذي يمكن أن يعوض بموهبته الروحية والسياسية والفكرية عن غياب الرؤية المشتركة والغايات العامة المتمثلة والمستبطنة من قبل النخب والشعوب معا. ولذلك كان موت الزعيم إنذارا بضياع الأمة وخراب العمران.

** في الواقع. يخطر لي أحيانا، أمام ما نشاهده من ترهل أخلاقي وفكري وسياسي للنخب الاجتماعية المسيطرة أن ما نفتقر إليه هو ثورة أخلاقية عميقة تكون في أساس نشوء نخبة ارستقراطية جديدة، ليس بالمعنى القديم للارستقراطية العقارية بالطبع، ولكن بمعنى النخبة التي تتمتع بحد كبير من النبالة الفكرية والأخلاقية تحاكي نخبة السموراي التي ظهرت في اليابان في تلك الحقبة السوداء من تاريخه، وعبرت عن إعادة إحياء القيم الإنسانية في التضامن والعدالة ورفض الظلم، مما لا يقوم اجتماع سياسي ومدني من دونه.

** الأشخاص المفكرون والواعون والنبلاء موجودون في كل المجتمعات وفي أحلك الظروف وأقسى الأوضاع، لكن عندما نتحدث عن نخبة فنحن نقصد تبلور تيار رئيسي يجذب إليه كالمغناطيس الأفراد، يوحد نظرتهم ورؤيتهم للعالم، أي: فكرهم، قيمهم، تطلعاتهم، أسلوب تصورهم للمهام وللأجندة التاريخية بعمومها.. فالنخبة التي نقصدها تشكل جزءا من بناء النظام الاجتماعي السياسي، أي هي مفهوم اجتماعي، ولا علاقة لها بمفهوم النخبة المثقفة المتداول في الاستخدام العام والشائع، أي مجموعة من المثقفين المبدعين والمؤثرين.

** صاحب القضية لا يخشى من تغير نظام الوسائل عندما تتغير الأحوال، أو عندما يدرك أن ما يستخدمه منها لا يخدم القيم التي يدافع عنها. ولا يشعر بخيانة فكرة وإنما بالتوافق بشكل أكبر مع القيم والمبادئ التي تحركه وتلهمه، وبالتالي مع روح المسئولية والواجب أيضا.

وبالعكس، تشكل الانتهازية من حيث هي أسلوب واحد في التلاعب بالقيم والمبادئ جميعها، وتحولها إلى أدوات وشعارات ووسائل، الأسلوب الرئيسي والثابت، بصرف النظر عن تغير الأحوال، للحفاظ على المصالح الخاصة والمواقع والأدوار لدى الأفراد الذين يفتقرون لأي قضية عامة أو إنسانية.. فالتمسك بالقيم هو عدو رجل الوسائل الأول.     

** الواقع أن الفكر الذي لا يتطور هو الفكر الذي لا يرتبط بممارسة، وإنما يقتصر على تلخيص أفكار أو تأملات فكرية جاهزة. فالممارسة هي التي تغني الفكر وتدفعه إلى التحول والتطور والتجديد. وتعني الممارسة تواصلا مع الواقع ومع الآخرين أيضا، فنحن لا نكتب في الفراغ وإنما لفهم واقع ما أو تحويله. كما أننا نكتب لبشر، نعرفهم أو نتوقع أننا نعرفهم، ونتخاطب معهم، ونسعى إلى التأثير فيهم، وصحة تحليلنا وتحقيقه في الواقع وموقف الآخرين منه هما الحكم في كل ما نكتب.

  ** يعرف مفهوم الشعب بالنسبة للسلطة المطلقة أو القهرية، بأنه: موطن للفتن الدائمة المذهبية والاجتماعية التي ينبغي توقعها وأخذ الحيطة منها.

وإزاء ذلك لا ترى هذه السلطة حرجا في فرض قانون التهميش الجماعي والعزل المدني الشامل وتزوير الإرادة العامة كوسيلة آمنة للحكم والاستقرار والازدهار. ولا تجد النخب المنقطعة عن الشعب والخائفة هي أيضا منه سبيلا للحافظ على وجودها وعلى بعض الحريات المدنية إلا في وجود سلطة مركزية قوية توحد بين هؤلاء بالقوة وتفرض عليهم الطاعة والانصياع والهدوء والأمان.  

** من دون اندماج النخب بالمجتمع، وقبولها الانخراط معه في مشروع مشترك، على قاعدة المساواة والتضامن، لا يوجد شعب. وفي شروط وجودنا الراهنة لن يكون هناك حتى الأمل في الاحتفاظ بنمط العلاقة التقليدية بين عامة وخاصة يجمعها الانتماء الديني الواحد، وإنما استعمار داخلي تستبد من خلاله النخب المرتبطة بالخارج أو المتحالفة معه بمصير البلاد والعباد وتحتكر موارد السلطة والثروة على حد سواء.

** هناك اختلال عميق في توازن القوى بين الجماعة المحكومة والجماعة الحاكمة، الفئات السائدة والفئات الخاضعة، وينجم عنه تهميش الجماعة المحكومة وحرمانها من أي قرار من جهة، ومن جهة ثانية استبداد الجماعة السائدة والحاكمة، وتمكينها من السيطرة على القرار الذي يقدم لها وسائل الاحتفاظ بتفوقها، وبالتالي التجديد الدائم لنفسها في موقع النخبة والمسئولية، بصرف النظر عن رأي المحكومين وإرادتهم.   

هذا يعني أنه إذا تغير نوع العلاقة بين السائدين والمسودين، المتحكمين والمتحكم بهم، التي هي انعكاس لنوعية العلاقة القائمة بين الطبقات، والروابط التي تحدد سلوك الأفراد، والقيم التي توجههم وتشترط اختياراتهم، تغيرت طبيعة النخبة وسلوكها وتغير المجتمع، كما تغير تصور كل فرد لهويته السياسية ودوره أيضا، فالأساس هو هذه العلاقة.

** الاستبداد يعلم الاتكالية ويرسخ ثقافة العجز والاستقالة المعنوية والسياسية، ويحل التبعية والإمعية محل المشاركة الإيجابية والنشيطة في الحياة العمومية. ومن يطلب من الناس أن يتمثلوا قيم المواطنة في مناخ الاستبداد وتربته كمن يطلب من العربة أن تشد الحصان.. المواطنة تولد في الحرية ولا تولد في الطغيان.

** لابد أن نميز بين التربية والتدجين، فالتربية تتعلق بالإنسان، وتقوم على تدريب العقل على التفكير السليم أو الأسلم، وبناء الضمير الذي يرشد الفرد في دخيلته الأعمق بالقدوة الحسنة والمثال الصالح، وهذه وظيفة الأنبياء والعلماء والمفكرين في كل الشعوب والمجتمعات.

أما التدجين فهو تذليل الروح الوحشية أو البرية عند الحيوان بالمغالبة والقهر وأحيانا بالضرب لتطويعه, لتكون عنده منعكسات شرطية غريزية قائمة على الخوف أو المكافأة بقصد تكييف سلوكه مع حاجات الإنسان الذي يستخدمه.

النظم التي مارست العنف بجميع أشكاله لإخضاع الأفراد وإجبارهم على طاعتها والتكيف مع سياساتها والإذعان لأحكامها، تدجن الناس والمجتمعات ولا تربيهم، فقانونها الداخلي أو العميق هو قانون القوة الذي لا يحصل تدجين من دون استبطانه من قبل الآخر الذي يمارس عليه، ولسان حاله يقول: أنا الأقوى، أنا المتفوق وليس لديك خيار آخر سوى الخضوع والاستسلام والطاعة أو الموت.

وكل ذلك لا يتحقق من دون قهر وتحقير وإذلال وإهانة وامتهان لكرامة الإنسان وسلامته النفسية والبدنية، حتى تستوعب الضحية معنى القوة المادية ومعنى التفوق والأسبقية، أي من هو السيد ومن هو العبد. فليس من الممكن تحويل الناس إلى عبيد من دون تلقينهم منطق التسيد، أي من دون إكراههم على استبطان حكم الأقوى وقانونه.

ومن الواضح أن هذا المنهج يتناقض حرفا بحرف في وسائل تحقيقه وبرنامجه معا مع المنهج التربوي الذي يقوم قبل أي شيء آخر على طمأنة الإنسان وتعليمه الثقة بالنفس والاعتماد على الذات حتى تتوسع مداركه ومقدرته على التعلم والكسب، ويكون إنسانا حرا ومسئولا وقادرا على التعاون والمشاركة مع أبناء مجتمعه والتعامل معهم على قاعدة المساواة والندية.

أما في ما يتعلق بمعركة الثقافة فهي ليست بين أطراف، ولا بين أشخاص. إنها معركة ضد القيم الهرمة أو المهترئة وأنماط التفكير والسلوك السلبية التي يستند إليها الطغيان، أو التي تشكل مصدر فقدان الشعوب ثقتها بنفسها وتخليها عن مبادئها وقيمها، ومن ثم انحلالها وتفتتها، فهي معركة داخل الثقافة نفسها. لا بين أطراف اجتماعية ثابتة.

وثقافة الاستبداد ليست حكرا على طرف، حاكما كان أو محكوما، إنها تخترق الطبقات والجماعات والأطراف. فهي لا تعمل إلا لأنها من حيث هي ثقافة العنف والسيطرة والإكراه والاضطهاد، هي أيضا ثقافة الاستكانة والاستسلام والتسليم واحتقار الذات. فكما أنه لا توجد سيطرة من دون خضوع كذلك لا توجد ثقافة قهر وإذلال من دون ثقافة ذل وتذلل وإمعية.

وعندما أقول إن الديمقراطية لن تأتي من السلطة الاستبدادية ولا من الشعب المتحلل سياسيا والممزق اجتماعيا والمشتت ثقافيا وإنما من خارجهما. هنا أعني أن مصدرها هو أولئك الذين انشقوا لسبب أو آخر من نظام القهر والذل وثقافته، فأصبحوا في ذهنهم -وأحيانا وجودهم المادي- خارج النظام، وصار بإمكانهم بالفعل أن ينتجوا وعيا مستقلا يمكنهم من نقد سلطة العنف والإكراه من جهة، ونقد أسس انحلال المجتمعات وتمزقها واستقالتها الثقافية منها والسياسية والاجتماعية، من جهة ثانية، فالتقدم في معركة الديمقراطية لا يكمن في نجاح طرف من الأطراف النخبة أو الشعب، المعارضة أو السلطة، في فرض نفسه على الآخر، وبالتالي تبديل المواقع مع الاحتفاظ بالبنيات ذاتها، وإنما في النجاح في تعميم شروط المساواة والحرية والندية على جميع أفراد المجتمع، قبل أن يكونوا نخبة وشعبا، أو في ما وراء هذا التوزيع للمواقع، وبالتالي العمل بجميع الوسائل على إزالة أسباب التمييز والقهر والاستتباع والإمعية، فتعميم هذه الشروط هو الذي يضمن نشوء نخبة من طراز جديد لا غنى عنها لتسيير المجتمعات كما يضمن نشوء شعب مؤهل للسيادة والحرية والمشاركة السياسية، فهي معركة موجهة إذن إلى الشعب والنخبة، وإلى السلطة والمعارضة في الوقت نفسه.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز