فن اختراق القلوب

منذ 2025-02-06

"كل نفس لها باب، وإليها طريق، لم يخلق الله نفسًا مغلقة لا باب لها ... ولا بد لك قبل أن تكلم أحدًا أن تعرف من أي باب من هذه الأبواب تدخل عليه".

لو أنكِ كنتِ واقفة أمام باب مغلق، تريدين فتحه والعبور من خلاله، ومعكِ مجموعة مفاتيح، ولكنكِ لا تعرفين بالضبط مفتاح هذا الباب الكائن أمامكِ، ماذا ستفعلين لتفتحي الباب؟

 

ستجربين كل المفاتيح الواحد تلو الآخر حتى يفتح أحدهم معكِ.

 

ونفس الفكرة لو أنكِ معكِ هاتف مغلق بنمط أو كلمة مرور، أو بصمة معينة، فلا بد أن تستخدمي النمط المناسب حتى يفتح معكِ.

 

كذلك القلوب تكون مغلقة بأبواب ومشفَّرة بكلمات مرور، فإذا أردتِ أن تفتحيها وتلجي فيها وتخترقيها، فلا بد أن تجربي مفاتيح كثيرة وعديدة؛ حتى يفتح لكِ أصحابها الباب، ويُرحبوا بكِ، ويُدخلوكِ بلا استئذان، بل سيجعلون لكِ مكانًا في صميم القلب.

 

يقول علي الطنطاوي: "كل نفس لها باب، وإليها طريق، لم يخلق الله نفسًا مغلقة لا باب لها ... فهذا يدخل إليه من باب التعظيم، وهذا من باب العاطفة، وهذا من باب المنطق، وهذا من باب التهديد والتخويف، وهذا يزعجه التطويل ويحب الاختصار، وهذا يُؤثِرُ الشرح والبيان، ولا بد لك قبل أن تكلم أحدًا أن تعرف من أي باب من هذه الأبواب تدخل عليه".

 

وما أكثر مفاتيح القلوب هذه وأرقَّها وألطفها!

وأهم هذه المفاتيح هو مفتاح الحب، ولكن الحب بمفهومه الواسع ولغاته المختلفة.

 

ليس الحب كلماتٍ تُقال فقط - كما صوَّروا لنا في الرومانسيات - ولا أفعالًا فقط، ولا لمسات حانية فقط، ولا هدايا فقط، ولا خدمات ومساعدات فقط، ولا قضاء أوقات فقط، بل الحب اجتماع كل ذلك وأكثر.

 

الحب أدومه وإن قلَّ.

الحب تراكم أفعال صغيرة.

الحب رصيد تضعين فيه كل يوم سهمًا.

الحب بناء تضعين فيه كل يوم لَبِنة.

الحب بذرة تسقينها كل يوم لتنمو وتزهر.

الحب خيوط صغيرة تجمعينها وتراكمين بعضها فوق بعض؛ لتنسجي معطف الحب نسجًا.

 

أتْقِني صنعة الحب التي تفتح أمامكِ أبواب القلوب العنيدة على مصراعيها.

 

حبكِ لأطفالكِ، لزوجكِ، لأهلكِ وعائلتكِ، لأصدقائكِ، لأحبَّتكِ في الله؛ كله يحتاج بذلًا وسقيًا، وبناءً وأفعالًا؛ لتثمر في قلوب مَن تُحبين ثمار التآلف والود والأمان.

 

داومي على زراعة الحب:

بكلمة مدح ورسالة ثناء وشكر، وتشجيع وتقدير، تُعزز الثقة بالنفس عند أحبتكِ.

 

بدعاء يخترق القلب وينشر في أركانه الطمأنينة؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه.

 

بكلمة "إني أحبك"، تنتقل من قلبكِ لقلب من تحبين.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «يا معاذ والله إني لأحبك»، وعن أنس رضي الله عنه (أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أحب فلانًا في الله، قال: «فأخبرته» ؟ قال: لا، قال: «فأخْبِرْه» ، فقال: تعلم أني أحبك في الله، قال: فقال له: فأحبك الذي أحببتني له).

 

بكلمة تدليل كما كان النبي يُدلل السيدة عائشة قائلًا لها: «يا عائش».

 

بأفعال ومساعدة في المسؤوليات والمهام، كما كان النبي في خدمة أهله؛ ففي صحيح البخاري عن الأسود قال: (سألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون ‌في ‌مهنة ‌أهله، تعني خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة).

 

ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد: (كان يخدُم نفسه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله).

 

بمساندة ودعم، واستماع للهموم والأحزان والأوجاع، وبمواساة في الابتلاءات؛ كما في تثبيت النبي لآل ياسر: «صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة».

 

بهدايا بسيطة غير متوقعة ومتكررة إن قلت؛ وردة، بطاقة، شهادة تقدير؛ كما وصانا النبي في حديث: «تهادُوا تحابُّوا»؛ (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني).

 

وفي الحديث الذي صححه الألباني: «عليكم بالهدية؛ فإنها تذهب بالضغينة وتزيد المحبة».

بمشاركة في الأفراح والأحزان.

بالاجتماع واللقاءات والنزهات، وصلة الرحم؛ كما وصانا بذلك رسول الله في الكثير من الأحاديث.

 

بالاهتمام بما يهتم به من تحبين حتى لو لم يكن ضمن اهتماماتكِ، كما كان النبي يفعل مع الأطفال؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن كان النبي لَيُخالطنا، حتى يقول لأخٍ لي صغير: «يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير» ؟).

 

بالاستماع والإصغاء لما يقول؛ كما في حديث أم زرع الطويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع للسيدة عائشة، وتفاعل معها في آخر الحديث.

 

بلمسات دافئة من أحضان تفرز هرمونات السعادة في قلب من تحبين، أو الربط بقوة على اليد؛ لحديث: «ونساؤكم من أهل الجنة الوَدودُ الولود العَؤود على زوجها، التي إذا غضِب، جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها»، وجاء فيه أن الزوجة تضع يدها في يد زوجها؛ لتُعِيدَ أواصر وجسور المحبة بينهما.

 

بمسح دمع الباكي وعدم احتقار دموعه، كما فعل النبي مع السيدة صفية عندما برك جملها فبكت؛ عن أنس بن مالك: (كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها، فأبطأت في المسير، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول: حملتني على بعير بطيء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويُسكتها)؛ (السنن الكبرى للنسائي).

 

بالطبطبة المطمئنة على الكتف، وبقُبُلات على الجبين، ومسحٍ على الرأس.

 

انظري كيف كان يتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابنته فاطمة إذا دخلت عليه، كان يقوم لها، ويأخذ بيدها، ويُقبِّلها ويجلسها في مجلسه، أرأيتِ مثل هذا اللطف والترحاب والحنان؟!

 

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحدًا كان أشبه سمتًا وهديًا ودلًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها وقبَّلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت فأخذت بيده، فقبَّلته وأجلسته في مجلسها).

 

انظري كيف أنكر على الأعرابي أنه لا يُقبِّل صِبيانه، ووصفه بأن الرحمة نُزعت من قلبه؟ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبِّلون الصبيان؟ فما نُقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو أملِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرحمة» ؟).

 

وكما أمرنا النبي بالمسح على رأس اليتيم؛ لإشعاره بالحب والحنان الذي افتقده بموت والده؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له: «إن أردت أن يلين قلبك، فأطْعِمِ المسكين، وامسح رأس اليتيم»؛ (أخرجه أحمد، وصححه الألباني).

 

بقضاء الوقت الممتع مع من تحب، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يسابق عائشة وهو راجع من بعض الغزوات، ويسترها لترى الحبش وهم يلعبون في المسجد.

 

عن السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان الحَبَشُ يلعبون بحرابهم، فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، تسمع اللهو)؛ (صحيح البخاري).

 

بعيادة المريض وتطمينه بكلمات تمسح ألمه، وتعطيه الأمل بالشفاء؛ وفي الحديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده، فقال: «لا بأس، طهور إن شاء الله» ، فقال: كلا، بل حُمى تفور، على شيخ كبير، كيما تُزيره القبور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فنعم إذًا»؛ (صحيح البخاري).

 

قال ابن القيم في (زاد المعاد): "كان يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها، وكان إذا هويت شيئًا لا محذور فيه تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرب، وكان إذا تعرقت عرقًا - وهو العظم الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكئ في حجرها ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها، وربما كانت حائضًا، وكان يأمرها وهي حائض فتتزر ثم يباشرها، وكان يُقبِّلها وهو صائم، وكان من لطفه وحسن خلقه مع أهله أنه يمكِّنها من اللعب ويُريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متكئة على مَنْكِبَيه تنظر، وسابقها في السفر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة".

 

وغيرها الكثير والكثير من أفعال تنمِّي الحب وتزيد الود بيننا، وصانا ديننا كثيرًا عليها؛ كردِّ السلام، وتشميت العاطس، بل جعلها النبي حقًّا للمسلم على أخيه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس».

 

فازرعي الحب يوميًّا بهذه اللغات والأفعال، واجعلي الحب عادة، وانشري السعادة، وأتقني فنَّ اختراق القلوب وتهكيرها.

__________________________________________________
الكاتب: سمر سمير