ظاهرة السطحية في فكر المسلمين قديما وحديثا .. الأسباب والعلاج (1 من 2)

منذ يوم

وهذا الاستكبار المصحوب بالجهل والسفاهة والمغلف بالجهالة الأخلاقية هو مسلك مقدر في سنن الله القدرية الكونية على قطاع من البشر منذ القدم وإلى يوم القيامة

 

بات من المعتاد أن تجد شخصا جاهلا وسفيها كتب رأيا فتعامله بلطف وتواضع بأن تعلق عليه، وتشرح له بكل تبسيط وبحجج لا يمكن لعاقل طبيعي أن تخفى عليه دلالاتها، ولا أن يتجرأ على معارضتها إن برزت أمام عينه، لكن المفاجأة هي انك تجده لا يعارضك فقط ولا يرد حججك فقط لكنه يتطاول عليك لفظيا بأسلوب يأباه خلق الإسلام بل وتأباه منظومة عادتنا وتقالدينا العادية من احترام و (ذوق) في التعامل والنقاش مع الغير.
وهذا الاستكبار المصحوب بالجهل والسفاهة والمغلف بالجهالة الأخلاقية هو مسلك مقدر في سنن الله القدرية الكونية على قطاع من البشر منذ القدم وإلى يوم القيامة، فقد قال احدهم لسيد ولد آدم صلى الله عليه وآله وسلم ((اتقي الله واعدل)). 
ونفس النوعية هي من تسببت في قتل سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) بأن ادعوا عليه بأنه لا يحكم بالشريعة وأنه يعذب الصحابة، ثم تسببوا في طول فترة الفتنة ايام سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فعندما شارف معاوية وجيشه على الهزيمة رفعوا المصاحف على أسنة الرماح، فأصر سفهاء الاحلام على سيدنا علي أن يوقف القتال، فرد عليهم بأن هذه خدعة والحرب على وشك النهاية بالانتصار، فشغبوا عليه وصمموا على أن يوقف القتال رغم أن كتيبة من جيش علي بن أبي طالب كانت على بعد أمتار قليلة من خيمة معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه)، وكان سينتهي الأمر، وقرر علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إيقاف الحرب مضطرا لئلا يحدثوا فتنة في صفوف جيشه، ثم لما اتفق على بن أبي طالب (رضي الله عنه) على التحكيم سارعوا الى تكفير كل الصحابة، بدعوى أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حكم الرجال بدلا من ان يحكم الشريعة الاسلامية ورفعوا شعار "لا حكم الا لله".
ثم صار ما صار مما هو مشهور بشأن الخوارج ومسيرتهم وتاريخهم منذئذ وحتى الآن.
وكثير من الناس عندما يناقشون أو يدرسون قضية الخوارج يتناولونها كأنها ظاهرة فكرية أو عقائدية أو خلاف في المنهج العلمي الشرعي بين أهل السنة والخوارج فقط، لكن الأمر ليس كذلك، فقضية الخوارج بالإضافة لكل هذا فهي ظاهرة نفسية اجتماعية، فالجانب النفسي فيها هي أن مؤسسيها ودعاتها لديهم قصور في قدرات التفكير وملكة الفهم والأرجح أنهم لو أجري عليهم بحوث قياس القدرة العقلية لثبت أن لديهم هذا القصور وأن عقلهم أقل من الطبيعي.
ومن الجانب النفسي في هذه الظاهرة أن درجة الاستكبار والاعجاب بالنفس وحب البروز والشهرة لديهم عالية بشكل كبير جدا، لدرجة أن سَعَى جدُهم للممارسة هذا التميز في مواجهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ما قال.
ناهيك عن سعيهم لمثل هذا التميز إزاء جميع الصحابة وعلى رأسهم سيدنا علي بن أبي طالب (رضوان الله على جميع الصحابة)، بمخالفتهم وتكفيرهم ثم محاربتهم وقتل بعض الصحابة بما في ذلك قتل سيدنا علي بن أبي طالب (رضى الله عنه).
ولو قلنا إن السبب الوحيد هو الخلل العقلي فسنكون مخطئين، لكن الخلل العقلي أو القصور العقلي في أغلب الحالات يكون كبيرا بدرجة تعرقلهم عن إدراك الأمور بشكل صحيح بسهولة، والعامل الآخر الذي يضاعف من الأثر السلبي لهذا القصور العقلي هو حالتهم النفسية المستكبرة والمعجبة بالذات، الراغبة في الشهرة والتميز والبروز عن غيرهم، فالظاهرة هي خليط من نسبة ما من القصور العقلي ونسبة أكبر بكثير من الاستكبار والرياء وحب الظهور والشهرة. 
أما الجانب الاجتماعي من الظاهرة فهو أن هذه الشريحة من البشر التي تتصف بهذه الصفات تتجمع وتصنع لنفسها كيانا "ما" اجتماعيا أو تنظيميا كما تصنع منظومة كاملة من أفكارها الخاطئة، وتمارس أفكارها السفيهة هذه في الواقع العملي، وتتساند وتتناصر من أجل هذا كله.
دعونا نقرأ معا حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخوارج أولا كي نأخذ منه درسا مهما ربما غاب عن أكثرنا:
عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل". فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال: "دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه -وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس". قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته. متفق عليه
والشاهد فيه هنا هو: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، وكذا العبارات التي بعدها وهي كلها تشير بوضوح لكونهم يأخذون من الدين المظاهر وأن حتى العبادات التي يؤدونها لا يصل أثرها إلى قلوبهم رغم أنهم يجتهدون فيها جدا، لأن ظاهرتهم هي ظاهرة شكلية أو مظهرية فقط فهي أقرب ما تكون إلى الرياء بدلا من كونها طاعات تزيد الإيمان.
ثم هل ظاهرة الخوارج اجتماعيا ونفسيا تقتصر على فرقة الخوارج المعروفة ذات العقيدة المعروفة فقط؟؟
في الواقع أن كل مؤسسي البدع العقيدية في تاريخ المسلمين هم من نفس النوعية، فكلها ظواهر اجتماعية نفسية تمثل لونا من ألوان النفاق العملي والرياء، وكلهم تنطبق عليهم نفس صفة "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".
إن الأجيال التالية من هؤلاء المبتدعين يحرك أغلبهم نفس الدوافع التي حركت المؤسسين، لكن بعضهم قد يحركهم دافع العادات والتقاليد عندما ينشأون في بيئة هذه الفرقة المبتدعة أو تلك، فيتلقون نفس المنظومة الفكرية منذ صغرهم وتصبح عادة لهم وارتباطا اجتماعيا يربطهم بهذه الفرقة.
ولكن هل هذا الأمر هو المفسر الوحيد للظاهرة التي أشرنا إليها بأول فقرة من هذا المقال؟
الإجابة في الحلقة التالية ان شاء الله.

عبد المنعم منيب

صحفي و كاتب إسلامي مصري