أم حسبتم أن تدخلوا الجنة

منذ يوم

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}

{بسم الله الرحمن الرحيم }

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}

{{أَمْ حَسِبْتُمْ}} أم ظننتم، والاستفهام المقدر بعد «أم» مستعمل في التغليط والنهي. ولذلك جاء بـ «أم» للدلالة على التغليط: أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد.

وهو كلام مستأنف سيق لبيان ما هي الغايةُ القصوى من المُداولة والنتيجةِ لما ذُكر من تمييز المخلِصين وتمحيصِهم واتخاذِ الشهداءِ وإظهارِ عزةِ منالِها.

وقال بعض المفسرين: وافتتح الكلام بذكر «أم» التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما، لا يعينه، يقولون: أزيد ضربت أم عمراً؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما، وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً، فلما قال: {{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} } [آل عمران:139] كأنه قال: أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر؟

وقيل: «أم» هنا تكون للإضراب، ويكون المعنى: بل حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، والإضراب هنا معناه الانتقال من طريق للبيان إلى طريق آخر، ففي الأول بين العبر والسنن بطريق التقرير {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، وفي هذه الآية يبين سنة أخرى بطريق الاستفهام الإنكاري، وفيه فضل تنبيه وفضل تقرير، والمعنى: أن سنة الله تعالى في نعيمه أنه لَا يستحقه على كماله إلا من بذل المهجة في حياته، وصبر في السراء والضراء [زهرة التفاسير]

{{أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}} وتفوزوا بنعيمها.. هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد. واستفهام على سبيل الإنكار أنْ يظنَّ أحد أنْ يدخل الجنة وهو مخلّ بما افترض عليه من البلاء والجهاد والصبر عليه.

{{وَلَمَّا}} حرف نفي أخت «لم» إلا أنها أشد نفيا من «لم».

{{يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}} ولما يقع ذلك منكم فيستبين لكم أمركم، ويظهر لكم جهاد المجاهدين وصبر الصابرين، فيعلمه علم ظهور وشهادة حتى يقع عليه الجزاء، فيكون الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزي العبد على مجرد علمه فيه دون أن يقع معلومه.

وعدمُ العلم كنايةٌ عن عدم المعلومِ لما بينهما من اللزومِ المبنيِّ على لزوم تحققِ الأولِ لتحقق الثاني، وضرورةَ استحالةِ تحققِ شيءٍ بدون علمِه تعالى به.. فالمراد بنفي العلم انتفاء متعلقه، لأنه منتف بانتفائه كما قال تعالى: {{وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ}} [الأنفال:23] والمعنى: لم يكن فيهم خير، لأنّ ما لم يتعلق به علم الله تعالى وجوداً لا يكون موجوداً أبداً.

كأنه قيل: والحالُ أنه لم يوجَد الذين جاهدوا منكم، وإنما وجِّه النفيُ إلى الموصوفين مع أن المنفيَّ هو الوصفُ فقط، وكان يكفي أن يقال: "ولما يعلمِ الله جهادَكم" كنايةً عن معنى "ولما تجاهدوا" للمبالغة في بيان انتفاءِ الوصفِ وعدمِ تحققِه أصلاً، وفي كلمة {وَلَمَّا} إيذانٌ بأن الجهادَ متوقَّعٌ منهم فيما يُستقبل إلا أنه غيرُ معتبَرٍ في تأكيد الإنكارِ.

وقد تكلموا في الحكمة في أن الله تعالى عبر في نفي المعلوم الواقع بنفي العلم الثابت، فقال: {وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ} ولم يقل: "ولا يقع معلوم الله"، ونقول: إن حكمة ذلك هو تعليمنا بألا نحكم إلا بما يظهر ويقوم عليه الدليل المحسوس، ولا يحكم أحد بما يتوقع، فالله العليم بكل شيء يرشد إلى أنه يترك الحكم في الأمر حتى يقع ما حكم به محسوسا ملموسا.

وقد نفى الله تعالى «العلم» بكلمة {وَلَمَّا} وهي في معنى «لم»، بيد أنها تمتاز عنها بأنها تنفي الأمر في الماضي والحاضر، وتومئ إلى وقوعه في المستقبل، ففي الآية إيماء إلى أن المعلوم وهو المجاهدون، لم يكونوا معلومين قبل الاختبار، وكانوا بعد الاختبار، وظهرت تلك الصفة فيهم.

** وفيه أن الجهاد سبب لدخول الجنة؛ ولا فرق بين الجهاد بالسلاح والجهاد بالعلم فكلاهما جهاد، بل قد تحتاج الأمة الإسلامية إلى جهاد العلم أكثر مما تحتاج إلى جهاد السلاح، وقد يكون بالعكس، وقد يتساويان. ولكن لا بد من وجودهما في الأمة الإسلامية، لا بد من وجود علماء، ولا بد من وجود طلبة علم، ولا بد من وجود مسلحين يقاتلون الكفار بالسلاح؛ لأن الجهاد لا ينزل علمه إلى يوم القيامة، فلا بد أن يكون قائماً.

{{وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}} أي: لا تظنوا أن تدخلوا الجنة والحالُ أنه لم يتحقق منكم الجهادُ والصبرُ على القتل والجرح؛ حتى يقع العلم ظاهراً بجهادكم وصبركم.

وإيثارُ اسمِ الفاعلِ {{الصَّابِرِينَ} } على الموصول "الذين صبروا" للدِلالة على أن المعتبرَ هو الاستمرارُ على الصبر، وللمحافظة على الفواصلِ.

والمعنى: أي ويقع المعلوم الثاني الذي قدره الله تعالى، وهو أن يتميز الصابرون من غيرهم، فالابتلاء الشديد أظهر نوعين من الرجال:

أولهما- المجاهدون الذين يجالدون ولا يفرون ولا يولون الأدبار، ولا يذهب ببأسهم قوة عدوهم، وفشل فريق من إخوانهم.

والفريق الثاني- الذي أظهره هم الذين صبروا ولم تذهب قلوبهم شعاعا، ولم يذهب تفكيرهم، ولم يضع رشدهم، ولم تطش أحلامهم.

والجهاد يتضمن الصبر، بل الصبر عدة الجهاد الأولى، لكن خُصَّ الصابرون بالذكر، وخص الصبر بالتنويه، وهذا لأن الصبر -ولو أنه عدة الجهاد- ينفرد بمعنى آخر غير الجلد والصبر تحت حر القتال وفي بريق السيوف، فإن الصبر يتضمن ثبات الفكرة واطمئنان القلب إلى الحقائق المقررة، وعدم طيش الأحلام، فإن الأخبار التي تثبط العزائم في الحروب إذا كانت كاذبة قد يصدقها المجاهد، ولكن شجاعته تدفعه إلى مواصلة القتال، وعدم التأثر، والصابر المطمئن النفس يمحص الأخبار في وسط الاضطراب النفسي، فإذا أشيع في ميدان القتال أن القائد قد قتل، كان الأبرار من الجند فريقين:

أحدهما- المجاهدون الشجعان الذين يستمرون على القتال، ولو كان الخبر صادقا، ويندفعون في الميدان.

والفريق الثاني- المجاهدون الذين نالوا حظ الأولين وكان لهم مع ذلك قدرة على التأمل أصادق الخبر أم كاذب، وإذا كان صادقا حثوا غيرهم على الاستمرار وبينوا لهم أن الواجب صار أشد وأقوى وألزم، فهذا فريق الصابرين، وإن هذا النوع من الصبر هو أعلى أنواع الصبر؛ لأنه ثبات الجنان، وتحمل التبعات بأبلغ أحوالها وأشد صورها، فهو صبر في جهاد الفكر، وجهاد النفس، وتحمل عبء الجاهلين الأغرار، وتولى إرشادهم وتوجيههم.

** وفيه بيان أن التمني الخال من الفعال رأس مال المفاليس، وهو عين الخسران.. قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي؛ [أي ليس بالتمني بالقلب، ولا بالتحلي بالمظهر]، وإنما ما وقر في القلب وصدقه العمل".

فالنص يفيد أن الطريق إلى الجنة ليس سهلا يسلكه كل إنسان، إنما هو محفوف بالمكاره والشدائد، ولا يصل إلى غايته إلا الذين جاهدوا وصبروا وصابروا، ولذا قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ) [مسلم] وذلك لأن المعاصي أسبابها اندفاع الشهوات الإنسانية، وانطلاق الغرائز المنحرفة، فليس فيها جهاد بأي نوع من أنواعه، بل فيها تلذذ وانحراف، وأما الجنة فسبيلها جهاد للنفس ومغالبة للهوى، ومنازلة بين الحق والباطل، وتكليفات يجب القيام بها، وكل هذه مشاق يحتاج احتمالها إلى جهد في دائرة الطاقة، و {لا يكَلفُ اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. . .} [البقرة:286].

قال الشنقيطي-رحمه الله-: أنكر الله في هذه الآية، على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه، وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله:

{{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}} [البقرة:214]

وقوله: {{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}} [التوبة:16]

وقوله: {{الم, أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ, وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} } [العنكبوت:1-3].

وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة، وذلك أن أبانا آدم كان في الجنة يأكل منها رغدا حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور، وأرغد عيش. كما قال له ربه: { {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى, وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}} [طه:118-119]، ولو تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة، ولكن إبليس عليه لعائن الله احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة، إلى دار الشقاء والتعب.

وحينئذ حكم الله تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف. فعلى العاقل منا معاشر بني آدم أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء، فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمارة بالسوء حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم، كما قال ابن القيم:

ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نرد إلى أوطاننا ونسلم

ولهذه الحكمة أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر قصة إبليس مع آدم لتكون نصب أعيننا دائما. [أضواء البيان]

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز