نماذِجُ من التَّأنِّي عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

منذ يوم

تأنِّيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كلامِه حتى يفهَمَه السَّامِعُ بغيرِ التِباسٍ، تأنِّيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مقابلةِ الإنسانِ الفاحشِ، وعَدَمُ التَّصريحِ له بذلك..."

تأنِّيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كلامِه حتى يفهَمَه السَّامِعُ بغيرِ التِباسٍ:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ يَسرُدُ الحديثَ كسَرْدِكم).
قال القَسْطلَّانيُّ: (أي: لم يكُنْ يتابِعُ الحديثَ بحديثٍ استعجالًا، بل كان يتكَلَّمُ بكلامٍ واضحٍ مفهومٍ على سبيلِ التَّأنِّي خوفَ التِباسِه على المستَمِعِ، كان يعيدُ الكَلِمةَ ثلاثًا لتُفهَمَ عنهـ).

- تأنِّيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مقابلةِ الإنسانِ الفاحشِ، وعَدَمُ التَّصريحِ له بذلك:
عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((استأذَن رجُلٌ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: «ائذَنوا له، بئس أخو العَشيرةِ، -أو- ابنُ العَشيرةِ» ! فلمَّا دخَل ألان له الكلامَ. قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، قُلْتَ الذي قلْتَ، ثُمَّ ألنْتَ له الكلامَ! قال: «أيْ عائِشةُ، إنَّ شرَّ النَّاسِ مَن ترَكه النَّاسُ -أو وَدَعه النَّاسُ- اتِّقاءَ فُحشِه».
وفي لفظٍ: (فلمَّا دخَل انبسَطْتَ إليه! فقال: «يا عائشةُ، إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لا يحِبُّ الفاحِشَ المتفَحِّشَ» ).

قال الخطَّابيُّ: (يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ استقبالَ المرءِ صاحِبَه بعيوبِه إفحاشٌ، واللهُ لا يحِبُّ الفُحشَ، ولكِنَّ الواجِبَ أن يتأنَّى له ويرفُقَ به، ويُكَنِّيَ في القولِ، ويُوَرِّيَ ولا يُصَرِّحَ).

- وصيَّتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لجنودِه في الحَربِ بسياسةِ التَّأنِّي:
عن سُلَيمانَ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سَرِيَّةٍ، أوصاه في خاصَّتِه بتقوى اللهِ، ومَن معه مِن المُسلِمينَ خَيرًا، ثمَّ قال: «اغزُوا باسمِ اللهِ في سبيلِ اللهِ، قاتِلوا مَن كَفَر باللهِ، اغزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِروا، ولا تَمْثُلوا، ولا تَقتُلوا وليدًا، وإذا لَقِيتَ عَدُوَّك من المُشرِكين، فادْعُهم إلى ثلاثِ خِصالٍ -أو خِلالٍ- فأيَّتُهنَّ ما أجابوك فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثمَّ ادعُهم إلى الإسلامِ، فإن أجابوك فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثمَّ ادْعُهم إلى التَّحوُّلِ من دارِهم إلى دارِ المهاجِرين، وأخبِرْهم أنَّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمُهاجِرين، وعليهم ما على المُهاجِرين، فإن أبَوا أن يتحوَّلوا منها فأخبِرْهم أنَّهم يكونون كأعرابِ المُسلِمين، يجري عليهم حُكمُ اللهِ الذي يجري على المؤمِنين، ولا يكونُ لهم في الغنيمةِ والفَيءِ شَيءٌ إلَّا أن يجاهِدوا مع المُسلِمين، فإنْ هم أبَوا فسَلْهُم الجِزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبَلْ منهم، وكُفَّ عنهم...».

- تأنِّيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلَ إقامةِ الحَدِّ على ماعِزٍ، ورَدُّه عِدَّةَ مَرَّاتٍ زيادةً في التَّأنِّي والتَّثبُّتِ:
عن بُريدةَ بنِ الحُصَيبِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((جاء ماعزُ بنُ مالكٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ طَهِّرْني. فقال: «وَيْحَك! ارجِعْ فاستغفِرِ اللهَ وتُبْ إليه» . قال: فرجَع غيرَ بعيدٍ، ثمَّ جاء فقال: يا رسولَ اللهِ طَهِّرني. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ويحَك! ارجِعْ فاستغفِرِ اللهَ وتُبْ إليه» . قال: فرجَع غيرَ بعيدٍ، ثمَّ جاء فقال: يا رسولَ اللهِ طَهِّرْني، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلَ ذلك، حتَّى إذا كانت الرَّابعةُ قال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فيمَ أُطَهِّرُك؟» فقال: من الزِّنا. فسأل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أبه جنونٌ؟» فأُخبِرَ أنَّه ليس بمجنونٍ. فقال: «أشرِبَ خمرًا؟» فقام رجلٌ فاستَنْكَهَه  ، فلم يجِدْ منه ريحَ خَمرٍ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أزَنَيتَ؟» فقال: نعَمْ. فأمَرَ به فرُجِمَ، فكان النَّاسُ فيه فرقَتَينِ؛ قائِلٌ يقولُ: لقد هلَك، لقد أحاطت به خطيئتُه، وقائلٌ يقولُ: ما توبةٌ أفضَلُ من توبةِ ماعِزٍ، أنَّه جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوضع يَدَه في يَدِه، ثمَّ قال: اقتُلْني بالحِجارةِ، قال: فلَبِثوا بذلك يومينِ أو ثلاثةً، ثمَّ جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهم جلوسٌ، فسَلَّم ثمَّ جلس، فقال: استَغْفِروا لماعِزِ بنِ مالِكٍ، قال: فقالوا: غَفَر اللهُ لماعِزِ بنِ مالكٍ، قال، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لقد تاب توبةً لو قُسِمَت بَينَ أمَّةٍ لوَسِعَتْهم».

قال القاضي عِياضٌ: (كان ترديدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له إذ لم يُقِمْ عليه بيِّنةً إلَّا لإقرارِه واستبرائِه في إقرارِه، وتثبُّتًا في أمرِه، ورجاءً لرُجوعِه عن قولِه، أو لتمامِ اعترافِه).
- تأنِّيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحرصُه على سؤالِ حاطبٍ رَضِيَ اللهُ عنه عن سبَبِ كتابتِه للمُشرِكين:
عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبا مَرثَدٍ الغَنَويَّ، والزُّبَيرَ بنَ العَوَّامِ، وكُلُّنا فارِسٌ، قال: انطَلِقوا حتَّى تأتوا روضةَ خاخٍ، فإنَّ بها امرأةً من المُشرِكين، معها كتابٌ من حاطِبِ بنِ أبي بَلتَعةَ إلى المُشرِكين))... وفيه: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما حملك على ما صنَعْتَ؟!» قال حاطِبٌ: واللهِ ما بي ألَّا أكونَ مؤمِنًا باللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أردْتُ أن يكونَ لي عندَ القومِ يدٌ يدفَعُ اللهُ بها عن أهلي ومالي، وليس أحَدٌ من أصحابِك إلَّا له هناك من عشيرتِه مَن يدفَعُ اللهُ به عن أهلِه ومالِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صدَقَ، ولا تقولوا له إلَّا خيرًا».
- تبَرُّؤه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من صنيعِ خالِدِ بنِ الوليدِ رَضِيَ اللهُ عنه لتركِه التَّأنِّيَ:
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((بعث النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خالِدَ بنَ الوليدِ إلى بني جَذِيمةَ، فدعاهم إلى الإسلامِ، فلم يُحسِنوا أن يقولوا: أسلَمْنا، فجعلوا يقولون: صبَأْنا  صبَأْنا! فجعل خالِدٌ يَقتُلُ منهم ويأسِرُ، ودفع إلى كُلِّ رجلٍ منَّا أسيرَه، حتَّى إذا كان يومٌ أمَر خالِدٌ أن يَقتَلُ كُلُّ رجُلٍ منَّا أسيرَه، فقُلتُ: واللهِ لا أقتُلُ أسيري، ولا يقتُلُ رجُلٌ من أصحابي أسيرَه، حتَّى قَدِمْنا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذكَرْناه، فرفع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه فقال: «اللَّهُمَّ إني أبرأُ إليك ممَّا صنَعَ خالِدٌ!» مرَّتينِ)).
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحديثِ ما يدُلُّ على أنَّ المتعَيَّنَ على أميرِ الجيشِ أن يتأنَّى في القَتلِ بمن يُلقي إليه بالسَّلْمِ حتى يفهَمَ عنه ما يريدُ من قَولِهـ).