الثورة السورية .. شجون وشئون

منذ 2012-02-29

الثورة السورية المجيدة نعمة تستحقُّ الشكر، وإذا لم نتعامل معها بما يجب ويليق، فقد تتحوَّل إلى نقمة، وهذا ما أشعر أنّ الثوار الأحرار يستوعبونه على نحو ممتاز.


استكملت الثورة السورية أمس شهرها الحادي عشر، والنظام ماضٍ في أوهامه في إخضاع الثوار وإطفاء لهيب الثورة المستعر، مع أن العالم كله على قناعة تامة بأن من المستحيل لنظام يقصف شعبه بالمدافع ويعذِّب أطفاله أن يستطيع الاستمرار في الحكم..

لكن يبدو أن النظام السوري يقوم مع حلفائه من الروس والإيرانيين بعملية (توريط) متبادلة: حلفاء النظام يغرونه بالبطش والقتل، وهو يسحبهم معه إلى القاع حيث الندم والإفلاس. أمَّا الثورة فإنّها تزداد اشتعالاً، وعزائم الثّوار تزداد صلابة وثباتًا؛ فقد قدَّموا تضحيات هائلة، ولن تهدأ النفوس حتى يسترجعوا ثمنها، ولن يكون ثمنها في الدنيا شيئًا أقلّ من نصر مبين لا لبس فيه، وهم يشعرون أنهم لم يكونوا أقرب إلى ذلك في يوم من الأيام منهم اليوم.

إن الثورة السورية المجيدة قد قدّمت إلى الآن ما يقرب من عشرين ألفًا بين قتيل ومفقود، وهذه خسارة كبيرة لنا جميعًا ولأهالي الضحايا خاصَّة، لكنّني أشعر أنّ ملايين السوريين يولدون من جديد؛ فالنظام المستبد الظالم أفقر حياة السوريين إلى حدِّ الإملاق، وقتل فيها كلّ المشاعر الوطنية ومشاعر التّسامي نحو الغايات الكبرى، واستطاع خلال خمسين سنة من الدعايات والسياسات الفاشيَّة أن يجعل حياة كثير من الناس في سوريا تدور حول شيئين لا ثالث لهما: السلطة والمال، ولم يبق للناس هناك ملاذ (سوى الدِّين)، بوصفه مصدرًا لتغذية الروح وإنعاش القيم النبيلة..

النّظام لم يدمِّر حياة السوريين على صعيد الكرامة والمشاعر والقيم فحسب، وإنما دمَّرها أيضًا على صعيد الوعي والمعاصرة والتواصل مع العالم.

اليوم نشاهد أعدادًا هائلة من السوريين وقد تحرّروا من الخوف من النظام، ومن بعضهم بعضًا، واليوم نرى الصّغار والكبار يكتشفون جوهرهم الإنسانيّ، ويعيدون تنظيم صفوفهم على أساس من الثقة بالنفس والتفاؤل والتطلع للمستقبل.

إن التّاجر حين يوظِّف ماله في صفقة تجاريَّة يكون الهمّ الأوَّل له هو استرجاع رأس المال، وأنا أشعر أن الثورة السورية المجيدة قد أرجعت رأس المال بما أحيا الله بها من العقول والنّفوس والقيم والمفاهيم، ونحن ننتظر من الله -تعالى- أن يتمَّ نعمته علينا بسقوط النظام، وإقامة الدولة التي تليق بنا.

المطلوب من الثّوار ومن الدّاعمين لهم أن يحافظوا على المسار الرئيسي للثورة؛ فطول الأمد وتغيُّر الظروف والمعطيات كثيرًا ما يؤدِّيان إلى فَقْد الاتّجاه، واندراس الخطوط العريضة.

إنّ إسقاط النظام ليس هو الهدف النهائي للثورة، وإنّما هو تمهيد لإقامة الدولة التي تحفظ الحقوق والكرامات، وتساعد على ازدهار البلد والنهوض به. ولهذا فإنّ مقاومة نزعة الغلوّ والانتقام والسيطرة على العنف والمحافظة على أكبر قدر ممكن من سلميَّة الثورة من الخطوط الأساسيَّة التي لا يصحُّ التفريط بها لأيِّ سببٍ من الأسباب..

إنّ الثورة تسعى إلى إيجاد نمط جديد في ممارسة السّلطة، وحتى يكون هذا النّمط صالحًا وناجحًا فلا بدَّ له من أن يُقطع مع نظام الأسد على نحوٍ كامل؛ أي إنّ علينا أن نُسقِط النّظام بطريقة تساعد على بناء نظام جديد مغاير للنظام الحالي من خلال بُعده عن المحاصصة الطائفيَّة، ومن خلال الفصل بين السّلطات، وإطلاق الحريّات، وإقامة موازين العدل والحفاظ على مؤسسات الدولة.

إنّ الثورة هي ثورة على النفوس قبل أن تكون ثورة على النظام الفاسد، وهي تغيير في الحياة الاجتماعية قبل أن تكون تغييرًا في الهياكل السياسية، وإنّ التمسك بهذه المعاني إلى الخطوة الأخيرة هو الذي يساعد على نجاح الثورة، وجعلها تؤتي أُكُلها المرجوّة.

أنا أعرف أنّ نظام الأسد يمسك بعدد من الخيوط، ولديه العديد من الأوراق، ولكنّه مع هذا قد دخل مرحلة الاحتضار، والذي قد يطول بعض الشيء، ومن ثَمَّ فإنّ الذي سيعجِّل بوفاته ودفنه هو جعل المخدوعين وأصحاب المصالح ينفضُّون عنه، وذلك يكون بطمأنتهم بأنَّ دولة تعدديَّة حرَّة وخاضعة للدستور والقانون هي لمصلحة الجميع دون استثناء.

الثورة السورية المجيدة نعمة تستحقُّ الشكر، وإذا لم نتعامل معها بما يجب ويليق، فقد تتحوَّل إلى نقمة، وهذا ما أشعر أنّ الثوار الأحرار يستوعبونه على نحو ممتاز.

ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ.


الاثنين، 27 شباط/فبراير 2012 م
د. عبد الكريم بكار