حرب غزة ومشكلة الشر

منذ يوم

قد تركَت هذه الحرب في نفوس الناس أسئلة كثيرة، من أبرزها: سؤال الشر. لماذا يأذن الله بحدوث ذلك؟!

ذكر غير واحد من السياسيين والمطّلعين أن ما يحدث اليوم في غزة لم يشهد العالمُ المعاصر له مثيلا، لا من حيث النظر إلى آحاد المصائب والشدائد، بل من حيث اجتماعها على هذا النحو المأساوي المتشابك المعقد.
وقد تركَت هذه الحرب في نفوس الناس أسئلة كثيرة، من أبرزها: سؤال الشر.
لماذا يأذن الله بحدوث ذلك؟!
أين الله مما يجري لنا؟!
أليس قادرا على منعه بقوته؟!
ألا يتنافى هذا مع رحمته وعدله؟!
وما أشبه ذلك من الأسئلة التي يسألها بعض الناس بلسان المقال، وبعضهم بلسان الحال.
وهذا ما يعرف ب (مشكلة الشر) و(سؤال الشر)، وهو السؤال الذي حار فيه الناس من قديم، وأكثرُ الإلحاد الواقع في الخَلق إنما هو بسببه.

وقد كثر الكلام في الجواب عن هذا السؤال، وتناوله الناس من زوايا كثيرة، وصنفوا فيه مصنفات مفردة. وليس المقام هنا مقامَ تفصيل وتطويل، ولذا أَختصر الكلام فيه وأُجمله في نقاط، فأقول وبالله أصول وأجول:
١- هذه الدنيا التي نحن فيها إنما هي لهو ولعب ومتاع، وخيالات وأحلام وأوهام، والحقائق هناك في الآخرة.
{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: ٦٤].
نعم، هناك المنازل الأولى، والحياة السرمدية الخالدة البريئة المنزَّهة عن الشرور والآلام، ونحن في سيرنا إليها لا بد أن يعترينا شيء من الأذى لا تَخْلص النفوس ولا تطهر ولا تستعد لذلك العيش الأُخروي إلا به.


٢- من أصول الإيمان ومعاقده: أن الله سبحانه لا يقدّر شيئا إلا لحكمة، وأن أحكامه الشرعية والقدرية جارية في هذا المضمار والميزان.
قال جل وعلا: {أليس الله بأحكم الحاكمين}[التين: ٨].
كل شيء في هذا الكون الواسع البديع يشهد بعلم الله ورحمته وحكمته، وهو سبحانه قد أطلع عباده على بعض ذلك، وأخفى كثيرا منه واستأثر به، وهذا من مقتضيات كماله.
والواجب على الخلق أن يسلّموا لربهم وخالقهم في كل شيء، ويعودوا بما جهلوه من حكمته على ما علموه وأبصروه؛ فإن الإحاطة بكل شيء متعذرة، فلم يبق إلا الإيمان والتسليم.


٣- هذا الكون الذي نحن فيه قائمٌ نظامه على التنوع والاختلاف ووجود المتناقضات: الخير والشر، والعدل والظلم، والطيب والخبيث، والحسن والقبيح، والعافية والمرض... إلخ.
فلا تستقيم الحياة ولا يستقر نظام الكون ولا تتحقق آيات الله وكمال صفاته إلا بوجود هذا التنوع والاختلاف، ولا يوجد الخير في الدنيا إلا مقرونا بالشر، فالذي يَنشد حياة لا شر فيها إنما يطلب حياة غير هذه التي خلقها الله.


ومن بديع كلام ابن القيم في "طريق الهجرتين" في الجواب عمن يسأل عن إمكان حصول الخير مجردا عن الشر: "أن هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هَلَّا تجرد الغيث والأنهار عما يحصل به من تغريق وتعويق وتخريب وأذى؟! 
وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسَموم وأذى؟!
وهلا تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟! 
وهلا تجردت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع؟!
وهلا تجرد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغير أحواله؟! 
وهلا تجردت فصول العام عما يحدث فيها من البرد الشديد القاتل والحر الشديد المؤذى؟! 
فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟!".


٤- ليس في الوجود شرٌّ محض لا خير فيه، بل هي شرور نسبية مشتملة على شيء من الخير قل أو كثر، فالله سبحانه لا يقدّر شرا محضا؛ فإن هذا مناف لحكمته وكمال صفاته.
قال سبحانه: {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء: ١٩].
وقال جل وعلا: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} [البقرة: ٢١٦].
ومن شواهد ذلك: هذه الحرب التي نحن فيها، فعلى كثرة ما فيها من الشرور والمصائب والآلام إلا أننا رأينا فيها من لطف الله ورحمته وعنايته ما يعجز المرء عن وصفه، وانكشفت فيها من الحقائق ما لا يمكن أن تنكشف بدونها، وحصل فيها من الخير الكثير الذي لا ينكره أحد.
أقول هذا بالنظر المجرد المستقل البعيد عن تأييدها أو معارضتها، إذِ الكلام ليس متجها إلى ذلك.


٥- أكثر الشر الحاصل في الوجود إنما هو من فعل الإنسان وبإرادته واختياره، فالله تعالى خلق العباد وخلق فيهم الإرادة والقدرة على أفعالهم، ولذلك تُنسَب إليهم مع كونها واقعة بتقديره سبحانه، وهذا لازم التكليف والتخيير؛ فإن المجبَر لا يمكن تكليفه ولا ينسب إليه فعل.
ووقوع الشر من الإنسان تترتب عليه مصالح كثيرة، ويقع به التمايز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وتحصل به عبادات كثيرة لا سبيل إليها إلا بذلك.
أكتفي بهذا القدر.

والكلام في هذه المسألة كثير متشعب كما سَبقتِ الإشارة إليه، وقد استفدت هنا مما كتبه الشيخ سلطان العميري في "شرح الواسطية" (١٨٩-٢٠٨) فإنه نافع مفيد، ونظرت كذلك في كلام غيره مما تيسر لي وفَتح الله به في هذه الحال التي نحن فيها، والحمد لله على ما قدّر، ونسأله سبحانه الفرج والعافية.

بسام بن خليل الصفدي

مدير اللجنة العلمية بفرع غزة المدينة لجمعية ابن باز راعية العمل السلفي بقطاع غزة