الشهوات والملذات بين الثواب والحسرة

منذ 17 ساعة

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "من تأمل الدنيا علِم أن ليس فيها لذة أصلًا، فإن وُجِدت لذة شِيبت بالنغص الذي يزيد على اللذة أضعافًا.."

عباد الله: خلق الله تعالى الإنسانَ وفطَره مُحِبًّا لكل ما يرى أن فيه سعادتَه وأُنسه وسروره، من شهوات وملذات، وكل ما يراه خيرًا له بشتى صوره وأنواعه؛ فقال سبحانه عنه:  {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}  [العاديات: 8]، وقال عز وجل فيما فُطِر الناس على حُبه:  {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}  [آل عمران: 14]؛ قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسيرها: "يخبر تعالى أنه زيَّن للناس حب الشهوات الدنيوية، وخصَّ هذه الأمور المذكورة؛ لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تَبَعٌ لها، فلما زُيِّنَت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلَّقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا فيها إلى فريقين:

الأول: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خُلِقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها، ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصَّلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.

والفريق الثاني: عرَفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاءً وامتحانًا لعباده، ليعلم من يُقَدِّم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلةً لهم وطريقًا يتزوَّدن منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم، وعلِموا أنها كما قال الله فيها:  {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}  [آل عمران: 14]، فجعلوها معبرًا إلى الدار الآخرة، ومتجرًا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادًا إلى ربهم، وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها، وتزهيد لأهل العقول النيرة فيها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار فيها"، فشهوات الدنيا ولذاتها مطمع لكثير من الناس، يسعَون إليها ويرغبون في تحصيلها، يتهافتون على الحصول على هذه المستحسنات والتزود منها والاستكثار، وكثير منهم يعلمون أنهم لم يُخلقوا لهذا، وأنهم مفارقون لِما سعَوا لجمعه وتحصيله، وأنه يكفيهم منه شيء يسير يبلِّغهم حاجاتهم مدة بقائهم في هذه الدار، دون أن يُفنوا أعمارهم وجهدهم في طلب الاستزادة من كل مشتهى وملتذٍّ، ومن تأمل الشهوات والملذات التي يُحبها الناس، ويسعون لتحصيلها والاستكثار منها، وجدها كما قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله:

"من تأمل الدنيا علِم أن ليس فيها لذة أصلًا، فإن وُجِدت لذة شِيبت بالنغص الذي يزيد على اللذة أضعافًا، فمن اللذات النساء، ولربما لم تُحِب الزوج، ولربما لم تُحسِن التبعل، أو القيام بخدمة الزوج على الوجه الذي يُرضيه، فإن تمت المرادات، فَذِكرُ الفراق زائد في التألم على الالتذاذ، ومن اللذات الولد، فإن مرِض ذاب الفؤاد، وإن خرج عن حدِّ الصلاح زاد الأسف، وإن كان عدوًّا فمراده هلاك الأب، ثم إن تم المراد فذِكر فِراقه يُذيب القلوب، ومن هذا الجنس الالتذاذ بالمال، ففي جمعه وتحصيله أتعاب، وفراقه حسرة، وذهاب العمر في جمعه غبن، وهذا أنموذج لما لم يُذكر، فينبغي لمن وفقه الله سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلامة الدين والبدن والعافية، ويهجر الهوى الذي نُغصه تتضاعف على لذته".

 

وممن تحدث عن لذات الدنيا وشهواتها وأصناف الناس فيها الإمامُ ابن القيم رحمه الله؛ فقال: "و‌‌لذَّات ‌الدنيا ‌ثلاثة ‌أنواع: فأعظمها وأكملها: ما أوصل إلى لذة الآخرة، فيُثاب الإنسان على هذه اللذة أتمَّ ثواب، ولهذا كان المؤمن يُثاب على ما يقصد به وجهَ الله من أكله وشربه، ولُبسه ونكاحه، وشفاء غيظه بقهر عدو الله وعدوِّه، فكيف بلذة إيمانه ومعرفته بالله، ومحبته له، وشوقه إلى لقائه، وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم؟

 

النوع الثاني: لذة تمنع لذة الآخرة، وتُعقِب آلامًا أعظمَ منها، كلذَّة الذين اتخذوا من دون الله أوثانًا مودةَ بينهم في الحياة الدنيا، يحبُّونهم كحبِّ الله، ويستمتع بعضهم ببعض، كما يقولون في الآخرة إذا لقُوا ربهم سبحانه:  {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، ولذَّةِ أصحاب الفواحش؛ كشرب الخمر، والزنا، واللواط، والظلم والبغي في الأرض، والعلوِّ بغير الحق.

 

وهذه اللذَّات في الحقيقة إنَّما هي استدراج من الله تعالى لهم، ليُذيقهم بها أعظم الآلام، ويحرمهم بها أكملَ اللذَّات، بمنزلة من قدَّم لغيره طعامًا لذيذًا مسمومًا يستدرجه به إلى هلاكه؛ قال تعالى:  {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}  [الأعراف: 182، 183]؛ قال بعض السلف في تفسيرها: كلَّما أحدثوا ذنبًا أحدثنا لهم نعمةً؛ وقال تعالى في أصحاب هذه اللذَّات:  {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}  [المؤمنون: 55، 56]، وهذه اللذَّات تنقلب آخرًا آلامًا من أعظم الآلام، كما قيل:

مآربُ كانت في الحياة لأهلها   **   عِذابًا فصارت في المعاد عَذابا 

 

النوع الثالث: لذة لا تعقِبُ لذةً في دار القرار ولا ألمًا، ولا تمنع أصل لذة دار القرار، وإن منعَتْ كمالَها، وهذه هي اللذات المباحات التي لا يُستعان بها على لذة الآخرة، فهذه زمانها يسير، ليس لتمتُّع النفس بها قدر، ولا بدَّ أن تشغل عمَّا هو خير وأنفع منها؛ كلذة الشراب والطعام، والنكاح والملبس، والمسكن الحلال، وهذا القسم هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كلُّ لهوٍ يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميَه بقوسه، وتأديبَه فرسه، وملاعبتَه امرأته؛ فإنهنَّ من الحقِّ»، فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتِها فهو حقٌّ، وما لم يُعِن عليها فهو باطل".

 

أيها المسلمون: تحدث الإمام ابن الجوزي رحمه الله كلامًا نفيسًا في التعامل الصحيح مع الملذات والشهوات الدنيوية، واللذة الحقيقية فيها؛ فقال: "لقد غفل طلاب الدنيا عن اللذة فيها، واللذة فيها شرف العلم، وزهرة العِفة، وأنَفة الحميَّة، وعز القناعة، وحلاوة الإفضال على الخلق، فأما الالتذاذ بالمطعم والمنكح، فشغلُ جاهلٍ باللذة الحقيقية، فإنهما لا يُرادان لذاتهما، بل لإقامة العوض في البدن والولد، وأي لذة في جمع المال فضلًا عن الحاجة، فإن من يلهث لجمعه إنما هو مستعبد خازن له، يبيت حذرًا عليه، وأي لذةٍ في المطعم، وعند الجوع يستوي خشنه وحسنه، فإن زاد الطعام عن الحاجة، خاطر صاحبه بنفسه؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (بُنيت الفتنة على ثلاث: النساء وهن فخ إبليس المنصوب، والشراب وهو سيفه المرهف، والدينار والدرهم وهما سهماه المسمومان)، فمن مال إلى النساء لم يصفُ له عيش، ومن أحب الشراب لم يُمتَّع بعقله، ومن أحب الدينا والدرهم كان عبدًا لهما ما عاش، وقد نسيَ أكثر الخلق مآلهم ميلًا إلى عاجل لذاتهم، فأقبلوا يُسامرون الهوى، ولا يلتفتون إلى مشاورة العقل، فالله الله لا يغلبك هواك العاجل، وما يتذكر إلا أولو الألباب"، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فأعظم لذات الدنيا على الإطلاق هي لذة معرفته سبحانه، ولذة محبته، فإن ذلك هو جنة الدنيا ونعيمها العالي، ونسبة لذَّاتها الفانية إليه كتفلةٍ في بحر، فإن الروح والقلب والبدن إنما خُلِقوا لذلك، فمحبته ومعرفته قُرة العيون، ولذة الأرواح، وبهجة القلوب، ونعيم الدنيا وسرورها، بل لذات الدنيا القاطعة عن ذلك تنقلب آلامًا وعذابًا، ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك، فليست الحياة الطيبة إلا بالله".

 

وصدقا رحمهما الله، فأكمل اللذات ما استمر نفعه، وامتد طول لذته وأُنسه لصاحبه في الدارين، ومن ذلك العلم الشرعي، والاشتغال به تعلمًا وتعليمًا ومدارسة، والأنس بالله تعالى ذكرًا وتلاوةً لكتابه العزيز وتدبره، وقيام الليل، وكثرة الصيام، وغير ذلك من الأعمال الصالحة التي يُبتغى بها وجه الله تعالى؛ ولهذا رُوي في الآثار بكاء عدد من السلف عند موتهم؛ لحسرتهم على فوات ما كانوا يلتذون به في الدنيا من الأعمال الصالحة؛ فقد بكى معاذ بن جبل رضي الله عنه عند موته، وقال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند حِلق الذكر"، وبكى عبدالرحمن بن الأسود رحمه الله عند موته، وقال: "وا أسفاه على الصوم والصلاة، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات"، وبكى يزيد الرقاشي رحمه الله عند موته، وقال: "أبكي على ما يفوتني من قيام الليل، وصيام النهار ثم بكى، وقال: من يصلي لك يا يزيد بعدك؟ ومن يصوم ومن يتقرب لك بالأعمال الصالحة؟ ومن يتوب لك من الذنوب السالفة؟"، وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: "لو يعلم الملوكُ وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم، لَجالدونا عليه بالسيوف"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن في الدنيا جنةً، مَن لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"، يقصد بذلك جنة معرفة الله تعالى ومحبته، والقرب منه، وذكره سبحانه، وأقوال السلف في هذا الباب كثيرة.

 

فاللهَ اللهَ أيها المباركون، لنُكثر من غشيان الملذات الحقيقية الباقية النافعة في الدارين، ولنجاهد أُنفسنا على محبتها ولزومها، ولنحذر ما يُزينه الشيطان من ملذات وشهوات فانية لا تنفع في الآخرة، وربما أوبقت الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

 

اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

______________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف

​​​​​​​المصدر: شبكة الألوكة