الرقابة الذاتية

منذ 14 ساعة

مَنْ أصلحَ ما بينَه وبينَ الله؛ أصلحَ ما بينَه وبينَ الناس، وَمَنْ انتَهَكَ محارمَ اللهِ في الخَلْوَة، أهانَه في العَلانية {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}

عباَد الله: مَنْ أصلحَ ما بينَه وبينَ الله؛ أصلحَ ما بينَه وبينَ الناس، وَمَنْ انتَهَكَ محارمَ اللهِ في الخَلْوَة، أهانَه في العَلانية {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}[1].

وأوّلُ خُطْوَةٍ في طريقِ التوبة، مِنْ ذُنوبِ الخَلوة: الصّدْقُ مع الله، مَعَ العَزمِ والمجاهدةِ على تَرْكِها، فَمَنْ جاهدَ نَفْسَه، أعانَه رَبُّه، وهَدَاهُ إلى رُشْدِه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

 وَمَن استعاذَ باللهِ مِنْ ذنوبِ الخَلَوة، صَرَفَ اللهُ عنه شَرَّها، فالدعاءُ حِصْنُ المتَّقين، مَنْ دَخَلَهُ كان مِنَ الآمِنِين؛ وَقَدْ لَجَأَ إليه يوسفُ عليه السلام عندما خَلَتْ به الفتنة؛ فـ {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}؛ فَصَرَفَ اللهُ عَنْهُ السوءَ والفَحْشَاء، ومِنْ دعاءِ النبي ﷺ: «وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ»[2].

وَمَن اسْتَشْعَرَ رؤيةَ اللهِ تعالى، وأنَّه مُطَّلِعٌ على فِعْلَتِه؛ فَلَنْ يَخْلُوَ بمعصيتِه؛ لأن اللهَ {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}، وهو﴿ {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ}، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}[3]؛ ومن وصايا النبي ﷺ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ»[4].

إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا فَلا تَقُلْ   **   خَلَوتُ وَلكنْ قُلْ عَليّ رَقيبُ

وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ ساعـــــــةً   **   وَلا أنَّ مَا يَخْفى عَلَيْهِ يَغيبُ

ومَنْ تَذَكَّر ما أعدَّهُ اللهُ للذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ: مِنْ جَنّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ والأرضُ؛ زَهِدَ في الفِتنَة، ولو تزيّنَتْ له في الخَلْوَة! قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ*هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} ﴾.

والحياءُ مِنَ الله: حِجَابٌ حاجِزٌ عن الخلوةِ بما يَكْرَه! قال ﷺ: «اسْتَحْيِوُا مِنَ اللهِ حقَّ الحياءِ»[5]، فاتَّقِ اللَّهَ أَنْ يكونَ أهْوَنَ الناظِرِينَ إليك، واستحْيِ مِنْهُ على قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ[6]!

واحْذَرْ أَنْ تَكونَ مِمَّنْ عَنَاهُمُ اللهُ بقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}.

وَمَنْ استهانَ بالذنوبِ في خَلْوَتِه، واسْتَخَفَّ بِنَظَرِ اللهِ إليه؛ فَقَدْ عرَّضَ نفسَه للخَطَر! قال ﷺ: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي، يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا؛ فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا»، قال ثَوْبَان: (يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ صِفْهُمْ لَنَا)، قال: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا!»[7].

 

عبادَ الله: ما أسهلَ الوصولَ للحرامِ في هذا الزمان! فإِيّاك أَنْ تَغْتَرَّ بذلك، فإنّه اختبارٌ حقيقيٌ لإِيمانِك! يقول الشيخُ ابنُ عثيمين: (اللهُ يَبْتَلي المرءَ بِتَيْسِيرِ أسبابِ المعصيةِ له؛ حتى يَعْلَمَ سبحانَه مَنْ يخافُه بالغيب!)[8]، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}.

وَمِنْ حِيَلِ الشيطان، وَكَيْدِه الخَفِيّ: أنْ يَصُدَّ الإنسانَ عَن التَّحَذِيرِ مِنَ المعصية، بِحُجَّةِ أنَّه يمارِسُها في الخفاء! وهذا مِنْ تَلْبِيسِ إبليس؛ لأنَّ على الإنسانِ واجِبَيْن: أَمْرِ غيرِه ونَهْيِه، وأَمْرِ نفْسِه ونَهْيهِا، فَتَرْكُ أحدِهما، لا يكونُ رُخصةً في تَرْكِ الآخَر[9]؛ ولو كانَ المرءُ لا يَنْهَى عنِ المنكَرِ حتَّى لا يكونَ فيهِ شيءٌ، ما أَمَرَ أَحَدٌ بِمعروفٍ ولا نهى عن منكَرٍ[10]!

 والمجاهرةُ بالذَّنْب؛ أعظمُ من الاستتار به، قال ﷺ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ»[11].

فاغْسِلْ بِدَمْعِ الندم، وماءِ التوبة، نجاسةَ المعصية، وقَذَرَ الذَنْب؛ فـ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

 


[1] قال ابنُ الجوزي: (الحذرَ الحذرَ مِنَ الذنوب، خصوصًا ذنوبُ الخلوات، فإنَّ المبارزةَ لله تعالى؛ تُسْقِطُ العبد مِنَ عَينِه، وأَصْلِحْ ما بينكَ وبينَه في السرِّ، وقدْ أصلحَ لكَ أحوالَ العلانية) صيد الخاطر (207).

[2] رواه النسائي (1305)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي.

[3] وَمِنْ وصايا لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾.

[4] رواه الترمذي وحسنه (1987).

[5]  تتمة الحديث: قُلنا: (يا رسولَ اللهِ؛ إنَّا نستحي والحمدُ للهِ)، قال: (ليسَ ذلكَ؛ ولكن من استحَى من اللهِ حقَّ الحياءِ: فليحفظِ الرأسَ وما حَوَى، وليَحفظِ البطنَ وما وَعَى، وليَذكرَ الموتَ والبِلَى، ومن أرادَ الآخرةَ؛ تركَ زينةَ الدنيا، فمن فعلَ ذلكَ؛ فقد استحيَا من اللهِ حقَّ الحياءِ). أخرجه الترمذي (2458)، وأحمد (3671)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (935).

[6] جامع العلوم والحكم، ابن رجب (129).

[7] رواه ابن ماجه (4245)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه.

[8] مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (9/ 191).

[9] انظر: تفسير السعدي (51).

[10] انظر: تفسير ابن كثير (1/ 152).

[11] رواه البخاري ( 5721)، ومسلم ( 2990 ).