أدب السؤال
وحتى تُثمر أسئلتُنا ثمرتها، فهذه توجيهاتٌ تُعين على حُسن السؤال:
السؤال بريدُ القلب إلى العقول، وخطابُ الظمأ إلى موارد البيان، ومن الناس من يسأل ليزداد نورًا على نور، ومنهم من يسأل ليؤكّد ما عنده، ومنهم -وهم قلة- من يسأل ليختبر.
أدبُ السؤال ليس شكلاً بروتوكوليًا ولا غطاءً لفظيًّا، بل ميزانٌ داخليّ يحرّره توقير الوقت، وتعظيم الحق، وحسن الظن بالمجيب، فإذا استقام الميزان تنقّى السؤال من اللغو، وتخفّف من الزوائد، وتوجّه إلى لبّ القضية.
في مدارس العلم قديماً، كان التلميذ يُربّى على أن يضع سؤاله تحت ضوء معرفة الحق، لا تحت ظلّ الفضول، فالسؤال الذي لا يزكّي العقل يبدّده، والذي لا يختصر الطريق يطيله، والذي لا يراعي حرمة أعمار المسلمين يستهلكها في الهامشيات.
والسؤال الجيّد يبدأ بما بَذَل السائلُ من جهدٍ قبله: قراءةٌ أوليّة، محاولةُ فهمٍ أول، تدوينُ ما التبس عليه بالضبط، أمّا السؤال الذي يُلقى على عواهنه، بغير سياقٍ ولا معطياتٍ ولا غاية؛ فذلك شتاتٌ يُتعب السائل والمجيب جميعًا، ثم إن السؤال الصالح يصنع صحبةً صالحة: فهو يشي بمستوى الجدّ، وكلما زاد توقيرك للسؤال زادت عافيةُ جوابك.
وحتى تُثمر أسئلتُنا ثمرتها، فهذه توجيهاتٌ تُعين على حُسن السؤال:
١) رسالة واحدة مكتملة: نُرسِل استفسارنا كاملًا في رسالة واحدة؛ فالاكتمال يُسرّع الفهم ويُحسّن جودة الجواب.
٢) تعريف المقصد وتحديد السؤال: نُوضّح ما الذي نريد الوصول إليه بالضبط.
٣) ذكر ما بُذل: نُبيّن بإيجاز ما قرأناه أو جرّبناه وما الذي أشكل بعد المحاولة؛ فذلك يحفظ وقت الجميع ويجنّب تكرار البديهيات.
٤) الاكتفاء بغوغل: نوفّر الأسئلة التي يحسمها البحث العام في لحظة (كأعداد السكان، والتعريفات الأولية، والتواريخ الظاهرة)، ونجعل أسئلتنا فيما يحتاج تحريرًا خاصًّا أو بيانًا أدقّ.
٥) ترك الشخصنة: نُوجّه السؤال إلى الفكرة لا إلى الأشخاص، ونتجنّب الأسئلة الشخصية؛ فالمقصد بيانُ المعنى لا استكشافُ الخصوصيات.
٦) إرفاق ما يلزم: إن كان السؤال متعلّقًا بنصٍّ أو وثيقة نذكر المرجع والصفحة والاقتباس موضع الإشكال.
٧) أدب الزمن: إن كان للاستفسار أولوية زمنية نُبيّنها بهدوء، ونمنح الجواب فسحةً معقولة؛ فالبركة في التأنّي، ولا حرج في التذكير بين حين وآخر، فالبريد يغمر بعضه بعضًا ويطوي الرسائل تحت موجاته.
٨) إحسان الظن بالمجيب: ولله الحمد تيسّر خلال هذا الشهر الإجابة على أكثر من ٧٠٠ رسالة، ومن لم يبلغه الرد فله في القلب نصيبٌ من الدعاء والعزم على التدارك؛ فساحة السؤال ساحةُ تواصٍ على الحق، لا ميدانُ استثقال أو تربّص.
٩) تقبّل الاعتذار: قد يُعتذر عن الجواب لسَعة جهلٍ بالمسألة، أو لقصور القلم في خصوصية السؤال؛ فتفهّم ذلك من حسن الأدب.
ولم أذكر هذه النقاط على سبيل الضيق أو الانزعاج، بل على العكس تمامًا؛ إن كل رسالة ترد هي عندي فرحٌ وغنيمة، وبشارةُ صلةٍ على درب المعنى، والقلب مشرعٌ لكم قبل أن تُشرع نافذة الرسائل، وأسأل الله أن يُعين على حسن الجواب، وأن يوفّق لما فيه النفع والصواب، وأن يجعل هذه المراسلات منابِتَ بركةٍ في الدنيا، وذُخرًا في الآخرة.
- التصنيف: