الذكرُ شجرة مُثمرة

منذ 10 ساعات

المقولة التي ذكرتها للدكتور زين العابدين بلافريج هي في غاية الأهمية والعمق، فهي لا تقتصر على وصف الذكر بأنه عمل عبادي بسيط، بل ترتقي به إلى مستوى منظومة روحانية متكاملة تحول حياة الإنسان من الداخل.

كتب أ - محمد مزيردة

" الذكرُ شجرة مُثمرة؛ تثمر أحوالا ومعارف يقصدها السالكون العابدون، وهو يعلم العبد مراقبة الله ويورثه مقام الإحسان والإنابة" د. زين العابدين بلافريج.

المقولة التي ذكرتها للدكتور زين العابدين بلافريج هي في غاية الأهمية والعمق، فهي لا تقتصر على وصف الذكر بأنه عمل عبادي بسيط، بل ترتقي به إلى مستوى منظومة روحانية متكاملة تحول حياة الإنسان من الداخل.
دعنا نطور المعنى ونتعمق في أبعاد هذا التشبيه البليغ:

الذكر كمنظومة روحانية متكاملة

التشبيه بـ "الشجرة المثمرة" ليس مجرد صورة شعرية، بل هو وصف دقيق لعملية نمو روحي.

الجذور: الإخلاص والصدق.
جذور الشجرة هي الأساس الذي يثبتها ويمدها بالغذاء. وفي عالم الذكر، فإن الجذور هي الإخلاص لله تعالى، والصدق في النية. فإذا كان الذكر مجرد عادة أو حركة لسان دون حضور قلب، فإنه لن يثمر. أما إذا نبع من قلب صادق يريد القرب من الله، فإنه سيترعرع وينمو.

الساق: الاستمرارية والمداومة.
ساق الشجرة يرتفع ويتصلب بمرور الوقت، وكذلك الذكر. فالمداومة على الذكر في كل الأحوال، في الرخاء والشدة، هي التي تقوي هذا "الساق" الروحي. الذكر ليس حدثاً عابراً، بل هو نمط حياة يُمارس باستمرار ليصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصية المؤمن.

الثمار: الأحوال والمعارف.
وهذه هي النتيجة النهائية للعملية. فالثمار التي ينتجها الذكر ليست مالاً أو جاهًا، بل هي كنوز قلبية.

الأحوال: مثل الطمأنينة التي ذكرها الله تعالى في كتابه: {أَلَابِذِكْرِاللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (سورة الرعد: 28).

وأيضاً حالة السكينة والرضا الداخلي التي تجعل الإنسان مستغنياً عن كل شيء سوى ربه.

المعارف: هذه المعارف ليست معلومات عقلية بحتة، بل هي معرفة قلبية يقينية. فبكثرة الذكر، يفتح الله على العبد أبواباً من الفهم في أسمائه وصفاته، وفي آياته الكونية والقرآنية، فيرى بعين قلبه ما لا يراه غيره.

الآثار التحويلية للذكر

المقولة لا تقف عند وصف الثمار، بل تشرح كيف تؤثر هذه الثمار في شخصية العبد.

تغذية الإحساس بالمراقبة:
الذكر الدائم يغرس في نفس المؤمن شعوراً مستمراً بأن الله يراه في كل لحظة. هذا الشعور بالمراقبة ليس عبئاً، بل هو وقود للإيمان. فالمراقبة تدفع الإنسان إلى تحسين أدائه في الطاعات، وتوقظه من غفلته عند التفكير في المعاصي، لأن قلبه أصبح حياً بالله.

الوصول إلى مقام الإحسان:
هذا هو قمة ما يمكن أن يصله المؤمن. فبفضل المداومة على الذكر والمراقبة، يصبح العبد في حالة من الحضور الروحي الدائم مع الله، كأنه يراه. وإذا لم يصل إلى هذه الدرجة، فإن إيمانه بأن الله يراه يظل حاضراً قوياً. وهذا المقام لا يُورث بالمال أو النسب، بل هو نتيجة جهد وسعي في الذكر والعبادة.

التأصيل لمبدأ الإنابة:
الإنابة هي الرجوع الصادق إلى الله بالتوبة. الذكر يجعل القلب في حالة تواصل مستمر مع الله، وبالتالي إذا زلّ العبد أو أخطأ، فإن هذا التواصل لا ينقطع، بل يصبح دافعاً فورياً للعودة والتوبة. فشجرة الذكر لا تثمر فقط، بل تُطهّر أيضاً، وتُجدد العلاقة بين العبد وربه باستمرار.

في الختام، مقولة الدكتور زين العابدين بلافريج هي دعوة للتأمل في قيمة الذكر الحقيقية، فهو ليس مجرد كلمة تُقال، بل هو حياة تُعاش، وجسر روحي يصل الإنسان بخالقه، ويزوّده بالوقود اللازم لمواصلة رحلته الروحية نحو أعلى المراتب.