كلنا راحلون وسيبقى الأثر

منذ 9 ساعات

العناصر الأساسية : العنصر الأول : من الناس من يموت جسدا ، ويبقى حيا بأثره . العنصر الثاني : الحسنات والصالحات لا تموت . العنصر الثالث : شؤم الآثار السيئة.


أيها الإخوة الكرام: كل شيء في هذا العالم له أول لابد وأن يكون له آخر ، وكل شيء في هذا العالم له بداية لابد وأن تكون له نهاية ..
 الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال لابد من دخول القبر ، سنة الله تعالى في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا ..
ومن ذلك حياة الإنسان تبدأ حياة الإنسان حين مولده ، ثم هو يعيش ما كتب له أن يعيش ، ثم إن الإنسان يموت بأجله المعدود في يومه الموعود ..
عاش سيدنا آدم عليه السلام ألف عام ثم مات ، وتجاوز عمر سيدنا نوح ألف عام ثم مات ، لماذا مات ؟
لأنه مخلوق ، وكل مخلوق سيموت ، الإنسان سيموت ،والجان سيموت ، والملائكة ستموت ، حتى الموت لأنه مخلوق فسيموت ، ولن يبقى إلا ذي العزة والجبروت ..
لماذا المخلوق يموت ؟ 
لأن المخلوق له بداية ، ولأن له أول ، لذلك كانت له نهاية وكان له آخر وفي التنزيل الحكيم: 
{{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}} [سورة النحل] .
لكن من الناس من يكون له أول ، ولا يكون له آخر ، ومن الناس من تكون له بداية ، ولا تكون له نهاية ، هو كسائر الخلق يموت ويفنى بجسده فقط ، تفيض روحه إلى الله تعالى لكنه يبقى حيا ، من الناس من يموت جسدا ، ويبقى حاضرا بين الناس روحا وذكرا جميلا وسيرة حسنة وعلما نافعا وأثرا طيباً ولعل هذا ما طلبه سيدنا إبراهيم عليه السلام حين دعا ربه فقال : {{وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}} [سورة الشعراء] .
وفي سورة مريم
{{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ، وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } } [ سورة مريم ] .
والمعنى : ووهبنا لهم جميعا من رحمتنا فضلا لا يحصى، وجعلنا لهم ذكرًا حسنًا، وثناءً جميلا باقيًا في الناس ..

يبقى الإنسان المؤمن حيا وحاضرا بآثاره الطيبة التي تركها قبل موته قال الله تعالى: {{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}} [سورة يس]
عند تفسير هذه الآية: قال ابن كثير {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي من أعمالهم ..
أما قوله تعالى { {وَآثَارَهُمْ}} ففيها قولين اثنين ..
القول الأول : أن آثار الإنسان هي : أعماله التي عملها بيديه ، أو أعماله التي علمها للناس وعملوا بها فيثابون عليها إن كانت خيراً ، ويحملون أوزارها إن كانت شرا ..

الدليل : حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
 " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ". 

أما القول الثاني في قول الله عز وجل : {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ} فالمقصود بالآثار هنا آثار الأيدي التي تبطش وتعطى وتأخذ ، وآثار الأقدام التي تمشي إلى الخير أو تمشي إلى الشر ..

عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : « كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ : فَتَوَجَّعْنَا لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ، لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا يَقِيكَ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَيَقِيكَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ. قَالَ : أَمَ وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطَنَّبٌ بِبَيْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أبي بن كعب : فَحَمَلْتُ بِهِ حِمْلًا حَتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ : فَدَعَاهُ، فَقَالَ ما حملت على أن قلت ما قلت ؟ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ "» .

هذا الإنسان وأمثاله كثير من أصحاب الآثار الطيبة مات وعاشت حسناته ، مات وبقيت صالحاته ، مات وبقيت بصماته وآثاره الطيبة على الأرض  ..

{{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}}

الآثار الطيبة : علم علمته غيرك ، آية من القرآن حفظها ولد على يديك ..

الآثار الطيبة : خلق حسن عشت عليه ومت عليه وكنت مثالا فيه وقدوة ..

الآثار الطيبة:جهد بذلته ، وعمر أفنيته في سبيل الله تعالى ، ينفع الناس في حياتك وبعد مماتك ..

الآثار الطيبة: أن تأخذ بيد أحدهم إلى الله تعالى وأن تكون سبباً في هداية غيرك ، وفي الحديث «( لئن يهدي لك الله رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت)»

تموت يوم تموت وتبقى صحيفة العمل يكتب فيها أعمال وأقوال وسنن وأجور وحسنات دللت غيرك عليها لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ..

أيها الإخوة الكرام:
لما كان الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه هم أعظم الناس أعمالا صالحة وآثارا طيبة سجل الله تعالى ذلك لهم في قرآن خالد تالد إلى يوم القيامة..

قال الله تعالى في شأن سيدنا نوح عليه السلام: {{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} }

وقال عز من قائل في شأن سيدنا ابراهيم: {{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}} [سورة الصافات]  

وفي شأن سيدنا إلياس قال الله تعالى: {{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}} [سورة الصافات]  

وقال جل وعلا في شأن سيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام {{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ} } [سورة الصافات] .

ومن أصحاب الآثار الطيبة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم 
الذي مات ولم يترك لأهله وورثته من بعده ديناراً ولا درهماً، ولا عبدا ولا أمة، ولا شاة ولا بعيراً، ولا شيئاً يورث عنه، بل ترك أرضاً جعلها كلها صدقة لله عز وجل ، لكنه ترك لأمته القرآن والسنة والسيرة والأخلاق والهدي القويم ..

مر أبو هريرة بسوق المدينة، فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم، قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله يُقَسَّم وأنتم ها هنا ؟
 ألا تذهبون، فتأخذون نصيبكم منه؟! 
قالوا: وأين هو؟
 قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا، فلم نر فيه شيئا يُقَسَّم، فقال لهم: أما رأيتم في المسجد أحدا؟ قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرأون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم.

والمعنى في الجميع :
أن الله سبحانه وتعالى أبقى لهؤلاء الأنبياء الكرام بعد مماتهم ثناء حسنا وذكرا جميلا وسيرة طيبة ومحبة في قلوب الناس جزاء ما قدموا في حياتهم من الآثار الطيبة ..

قال الحبيب النبي عليه الصلاة والسلام: « " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له "»

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا جميعا لأحسن الأخلاق والأعمال إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الخطبة الثانية 
بقي لنا في ختام الحديث عن ضرورة أن يبقي الإنسان لنفسه في الحياة الدنيا أثرا طيبا ينفعه بعد مماته ويوم القيامة ، بقي لنا أن نقول :  

إن من الناس من يعيش في الدنيا أيامه ثم يموت ، ويبقى عمله السيء حيا ، ويبقى شره في الأرض ، يلملم عليه السيئات والحسرات ..

بعضهم يخرج من الدنيا وقد ترك فيها أفكارا خبيثة ، وآراء ممقوتة ، وأخلاقا مرذولة تفسد عقول الناس من بعده ، وتفسد الأخلاق .. يموت هذا الإنسان يوم يموت فتستريح منه الخلائق لكنه يشقى في قبره ويوم القيامة بآثارة السيئة ..

قال النبي عليه الصلاة والسلام " « وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ "» . 
الدليل: حديث السنة عن ابن آدم الأول..
ما قتلت نفس ظلما إلا كان على قابيل بن آدم كفل منها لأنه أول من سن القتل ظلما ..

{{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ، إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }} [سورة المائدة]

مات قابيل هذا من آلاف السنين ولم تزل صحيفة عمله منشورة يكتب فيها كل يوم سيئات وسيئات لأنه خرج من الدنيا وقد ترك آثاراً سيئة ، علم الناس الحقد ، والطمع ، والحسد ، وعلمهم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، من يوم أن فعل ما فعل وهو يشقي بسيئاته الشخصية وبمثل سيئات من اقتدى به وعمل عمله ..

قال الله تعالى : { {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}} ..

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الثبات على الحق حتى الممات إنه ولي ذلك والقادر عليه.
------------------------------------------------------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.