التعبد: أنس وتعود!

منذ 5 ساعات

المؤمن يعيش بين ساعةِ جِدٍّ وساعةِ راحةٍ، ساعةِ إقبالٍ وساعةِ استجمامٍ، حتى يستطيع مداومة العمل برغبةٍ وبلا مَلل.

ملازمةُ التعبد ليست اندفاعةً روحيةً عابرة، وإنما هي ثمرةُ معرفةٍ بالله عميقة، وتفكُّرٍ في العاقبة، ورؤيةٍ لأحوال الناس في الآخرة، ومجاهدةٍ للنفس متواصلة، وصبرٍ طويلٍ على مشقة الطاعة، وتدرجٍ حكيمٍ مستمرٍّ في صعود مراقي الممارسة النقية المتقنة، بصورة تجعل من العبادة ـ في نهاية المطاف ـ غذاءَ روحٍ ومشتهى نفسٍ، من دون إكلالٍ للجسد ولا تحميلٍ له ما لا قِبَلَ له به.

فنقطةُ البداية تكون بحُسن معرفة العبد ربَّه؛ فإذا تفتّح القلب على عظمة الله وجلاله وجماله وكماله وإتقانه، وشهد دقيق لطفه وسعة رحمته ووفير إحسانه، أورثته تلك المعرفة محبةً لله مشوبةً بإجلالٍ وتعظيم، وخوفًا ورجاءً، وشكرًا وامتنانًا، وعندها يمتلئ شوقًا إلى القرب منه سبحانه وطلبِ رضاه، فتصير العبادة له مادةَ حياةٍ، وقرةَ عينٍ، وشوقَ روحٍ.

وهذا ما يفسر مثل قوله ﷺ: «يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها» (رواه أبو داود)، وقوله ﷺ: «وجُعلت قرة عيني في الصلاة» (رواه النسائي)، ومثل ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه. قالت عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟! فقال ﷺ: «يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟» (رواه مسلم).

ولكن هذا الأنس لا بد أن يترافق مع اقتصادٍ وتدرجٍ في العمل؛ حتى يألفه العبد ويعتاده فيداوم عليه ويستمر. وفي تقرير ذلك يقول ﷺ: «يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل» (متفق عليه).
وفي هذا السياق جاء نهيه ﷺ عن وصال الصيام، وعن الإفراط المجهِد الذي يقطع المسير، فقال ﷺ: «إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى» (رواه أحمد). وقال ﷺ حين دخل المسجد «فرأى حبلاً ممدودًا بين ساريتين، فقال: «ما هذا الحبل»؟ قالوا: لزينب، تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: «حُلّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليقعد» (متفق عليه).

بل إنه ﷺ قرر قاعدة التوازن في هذا الباب بقوله: «ولكن سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدُّلجة» (متفق عليه). وبقوله ﷺ للثلاثة الذين حين رأوا عبادته كأنهم تقالّوها: «أما والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» (متفق عليه). وبقوله ﷺ: «ولكن يا حنظلة، ساعةً وساعة» ( ـ ثلاث مرات ـ رواه مسلم) .

فالمؤمن يعيش بين ساعةِ جِدٍّ وساعةِ راحةٍ، ساعةِ إقبالٍ وساعةِ استجمامٍ، حتى يستطيع مداومة العمل برغبةٍ وبلا مَلل.
ومن أوضح الشواهد المعززة لذلك ما جاء في قصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، إذ كان قد ألزم نفسه بختم القرآن في أقل القليل، فأرشده النبي ﷺ إلى الترفق، فقال: «اقرأ القرآن في كل شهر»، فقال: إني أجد قوة. قال: «فاقرأه في عشرين ليلة» »، فقال: إني أجد قوة. قال: «فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك» (متفق عليه). وفي رواية عند أبي داود: «اقرأه في ثلاث».

ومثل ذلك في الصيام؛ فقد كان رضي الله عنه يصوم الدهر كله ويقول: والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت. فقال له ﷺ: «فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر». قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فصم يومًا وأفطر يومين». قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فصم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام». فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال النبي ﷺ: «لا أفضل من ذلك» (متفق عليه).
وإنما نهاه النبي ﷺ عن الديمومة؛ لأن ذلك أرفق بالنفس، وأعون على الدوام، وأقوم بحق الأهل والضيف، وأحسن في عشرة الخلق.

وفي شأن قيام الليل، قال له ﷺ: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام... وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه». وكان ثابت البناني يقول: «كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعّمت بها عشرين سنة».
وكان محمد بن المنكدر يقول: «كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت». في دلالة صريحة على أن البداية مشقةٌ ومصابرة، والعاقبة لذةٌ وأنسٌ وديمومة.

وقد بلغ السلف مراتب عالية في ملازمة الطاعات بالمجاهدة والتعوّد؛ فقد ذكر الحافظ عبد الغني في الكمال أن أبا الدرداء رضي الله عنه «كان يُسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة». وكان أبو هريرة رضي الله عنه يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، ويقول: «أسبح بقدر ديتي». وسأل أحدهم عميرَ بن هانئ: «أراك لا تفتر عن الذكر، فكم تسبح؟» فقال: «مائة ألف، إلا أن تخطئ الأصابع». وكان أبو مسلم الخولاني يذكر الله في اليوم أربعين ألف مرة.
وروي عن تميم الداري رضي الله عنه أنه قرأ القرآن في ركعة واحدة. وهذا الأسود بن يزيد كان يختم القرآن في ست ليالٍ، فإذا جاء رمضان ختمه في ثلاث، فإذا دخلت العشر الأواخر ختمه كل ليلة. وعن سعيد بن جبير أنه كان يختمه في ليلتين.

وعن منصور بن زاذان أنه كان يختم فيما بين الظهر والعصر، ويختم أخرى فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخّرونها قليلًا. وكان قوم من الصالحين يصلون الفجر بوضوء العشاء.

وهذه النماذج من الفعال إنما هي ثمرةُ قلوبٍ امتلأت بمعرفة الله ومحبته، ونفوسٍ رُوِّضت في دروب الطاعة، وعُوِّدت مسالك العبادة، وكثرة الممارسة حتى غدت لها سجيّةً وطبعًا.

وبمثل هذا الهدي تكون الطاعة للعبد قرةَ العين، والروحَ التي يحيا بها، فيعيش بين الجِدّ والراحة، والمجاهدة والأنس.

اللهم ارزقنا لذة معرفتك، وأنس طاعتك، ودوام عبادتك على الوجه الذي يرضيك، واجعلنا من أهل القلوب العامرة بذكرك، المستبشرة بلقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والله الهادي