دقة الإمام محمد بن جرير الطبري وأمانته العلمية في تفسيره

منذ يوم

وهذه خمس نقولات ننقلها للقراء الكرام من تفسير ابن جرير، وسيندهش كل مَنْ يقرؤها من شدة تحري ابن جرير في ألفاظ الروايات حتى في الكلمة الواحدة بل وفي الحرف الواحد!!

 

إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله المتوفى سنة 310 هجرية، صاحب التفسير المشهور المطبوع في 24 مجلدا، وفيه 38397 ثمانية وثلاثون ألفا وثلاث مائة وسبعة وتسعون رواية في التفسير،  أي: ما يقارب أربعين ألف رواية، يرويها ابن جرير كلها بأسانيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين وأتباعهم!

ولا عجب فقد استمرت رحلة ابن جرير في طلب العلم نحو خمسىة عشر سنة، وبلغ عدد شيوخه الذين كتب عنهم الحديث أربعمائة شيخ، ومن أشهر شيوخه الإمام البخاري، وقد شارك البخاري في السماع من بعض مشايخه مثل: محمد بن بشار ومحمد بن المثنى وأبي كريب الهمداني محمد بن العلاء وغيرهم.

 وهذه خمس نقولات ننقلها للقراء الكرام من تفسير ابن جرير، وسيندهش كل مَنْ يقرؤها من شدة تحري ابن جرير في ألفاظ الروايات حتى في الكلمة الواحدة بل وفي الحرف الواحد!!

  1. قال ابن جرير (20/ 473): قوله: { {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}} [الشورى: 10] يقول تعالى ذكره: وما اختلفتم أيها الناس فيه من شيء فتنازعتم بينكم، {فحكمه إلى الله} يقول: فإن الله هو الذي يقضي بينكم ويفصل فيه الحكم كما: حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، وحدثني الحارث قال: حدثنا الحسن [هو الزعفراني] قال: حدثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {{وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}} قال ابن عمرو في حديثه: «فهو يحكم فيه»، وقال الحارث: «فالله يحكم فيه».

فتأمل كيف ميز ابن جرير لفظ شيخيه: محمد بن عمرو والحارث، مع أن المعنى واحد!!

  1. قال ابن جرير (12/ 591): حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس،  {{وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص}} [هود: 109] قال: ما وعدوا فيه من خير أو شر". حدثنا أبو كريب ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله، إلا أن أبا كريب قال في حديثه: «من خير وشر».

فتأمل كيف بين ابن جرير أن شيخه أبا كريب وهو محمد بن العلاء الهمداني قال: (من خير وشر)، أما شيخاه سفيان بن وكيع ومحمد بن بشار فقالا: (من خير أو شر)، فبين الفرق في روايتهم في حرف واحد!!

  1. قال ابن جرير (8/ 202): حدثني إسحاق بن شاهين وإسماعيل بن موسى قالا: حدثنا خالد بن عبد الله, عن سهيل بن أبي صالح, عن أبيه, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار»، وقال إسماعيل في حديثه: «ويل للعراقيب من النار».
  2. قال ابن جرير (1/ 107): حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن [هو البصري] عن قوله: {{ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم}} [الحجر: 87] قال: "هي فاتحة الكتاب، ثم سُئل عنها، وأنا أسمع، فقرأها حتى أتى على آخرها، فقال: تُثنى في كل قراءة أو قال: في كل صلاة" الشك من أبي جعفر.

أتدرون من هو أبو جعفر الذي شك في كلمة قراءة أو صلاة؟ إنه الإمام ابن جرير نفسه، فهو الذي شك في الرواية، هل قال شيخه يعقوب بن إبراهيم: تثنى في كل قراءة أو قال: في كل صلاة!! فبين ابن جرير تلك الكلمة التي شك فيها، ولم يجرؤ على كتابة الرواية بأحد اللفظين دون أن يبين أنه يشك في كلمة منها!!

  1. قال ابن جرير (1/ 416): حدثني أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قالا جميعا: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي: «لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء»، وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل قال: «ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء».

قال المناوي في فيض القدير (5/ 373) في شرح قول ابن عباس: وأما المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر، فمطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما يشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات، وتسمى بأسمائها على منهج الاستعارة والتمثيل، ولا يشاركها في تمام حقيقتها.

فقول ابن عباس هذا كتبه ابن جرير عن اثنين من مشايخه، هما: أبو كريب، ومحمد بن بشار، وكل شيخ منهما يرويه عن شيخ عن سفيان الثوري عن الأعمش، فمدار الحديث على سليمان الأعمش، فبين ابن جرير لفظ كل شيخ، وهذا التفريق يدل على شدة تحري ابن جرير في رواياته، ولو جمعنا طرق هذه الرواية لرأينا الرواة يروون هذا القول عن ابن عباس بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، وسأقتصر هنا على ذكر 3 طرق لهذه الرواية:

  1. قال ابن أبي حاتم في تفسيره (260): حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو معاوية وهو محمد بن خازم، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: «ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء».
  2. قال البيهقي في كتابه البعث والنشور (332): أخبرنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص الزاهد، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكر بن الحارث الكوفي العبسي، أنبأنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: «ليس في الجنة شيء، مما في الدنيا إلا الأسماء».
  3. قال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه صفة الجنة (124): حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان, عن ابن عباس، قال: " ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا، إلا الأسماء".

واعلم أن ابن جرير رحمه الله كتب تلك الروايات وغيرها حين كان يطلب العلم في دفاتر، ثم حين ألف كتابه التفسير كتبها في مواضعها المناسبة لها على الآيات، وقد ذكر ابن جرير في أكثر من موضع ما يدل على هذا، ومن ذلك قوله في المجلد 16 صفحة 593: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق الصنعاني، عن الثوري، عن هلال بن خباب، عن سعيد بن جبير في قوله: {وقصْرٍ مشيد} [الحج: 45] قال: «مُجصَّص» هكذا هو في كتابي: عن سعيد بن جبير.

فقد استغرب ابن جرير من هذه الرواية، وبين أنه رآها هكذا في كتابه عن سعيد بن جبير، مع أنها في تفسير عبد الرزاق الصنعاني عن عكرمة وليس عن سعيد بن جبير، ففي تفسير عبد الرزاق الصنعاني (2/ 409) رقم (1941): قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري, عن هلال بن خباب, عن عكرمة, {{وقصر مشيد}} , قال: «المجصص».

وقد روى ابن جرير هذه الرواية عن عكرمة على الصواب من غير طريق عبد الرزاق، فقال ابن جرير في تفسيره (16/ 592): حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة: {{وقصر مشيد}} قال: «المجصص»، قال عكرمة: «والجص بالمدينة يسمى المشيد».

فرحم الله الإمام محمد بن جرير الطبري، وجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء، فقد حفظ لنا في كتابه التفسير آلاف الروايات المسندة في تفسير القرآن الكريم من أوله إلى آخره.

وكتب/ محمد بن جميل المطري

محمد بن علي بن جميل المطري

دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن